الفوضي هي ذلك الجانب من الطبيعة غير المنظم أوغير المنسجم وغير المتناسق والمفاجئ والإنقلابي والمضطرب، ولقد فسرها العلم وحاول دائماً إخضاعها لمعادلاته ومعالجاته وقانونه، ماعدا فوضي السياسة في بلادنا المحروسة فقد استعصت علي العلم والفهم والمنطق وكل احتمال، ذلك أن لفوضانا قانوناً خاصم العلم وخرج من إطاره ومراميه شأنه في ذلك شأن معظم مناشط حياتنا العامة وبنية مؤسساتها. ولقد عالجت موضوعات الخلل المؤسسي في سياساتنا العامة وتوجهاتنا الحكومية من منظور علمي في عشرات المقالات، كانت جريدة الأخبار من الشجاعة أن نشرتها جميعاً لم تحجب منها إلا مقالاً واحداً علي مدار السنوات الخمس الأخيرة. ولقد توصلت في المقالات الستة الأخيرة قبل ثورة 25 يناير أن منهج العلم ينبئ بقرب تفسخ النظام السياسي القائم وتفكيكه وسقوطه حيث وصلت معاملات الفوضي والخلل في آليات النظام وأجهزته وقوامه أعلي معدلاتها، وأطلقنا علي هذه الفوضي "إنتروبيا السياسة"، وخلصنا أيضاً إلي أن حكومة نظيف ووزراءها هم من يؤسسون للفوضي ويدفعون إليها، ربما عن غير فهم ووعي أو بسبب إنعدام الرؤية والكفاءة في مجموعة وزراء الصدفة والعجز والترهل. إذن نحن لاندعي اليوم مالم نصرح به في أوج تحكم النظام واستبداده، وليس فيما نقول إدعاء بطولة بأثر رجعي، الأمر الذي يحتم علينا وهو الأولي بنا أن نقولها الآن وبتحديد ووضوح وصراحة، أننا نري أن حكومة الفريق أحمد شفيق حكومة ينبغي أن ترحل اليوم قبل الغد فتكلفة وجودها أكبر كثيراً من تكلفة إعفائها، إنها حكومة الشتات والاستخفاف، وهي التي ترعي الفوضي وتؤسس لها، مايرتب للثوار والمواطنين الشرفاء أن يروا فيها رأس جسر لإجهاض الثورة المصرية الوليدة وضربها والالتفاف عليها، علي عكس ماقد كلفها به المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي رعي الثورة وحماها ولايزال، بينما عناصر في حكومة شفيق تسعي للوقيعة بين المؤسسة العسكرية والشعب أو علي الأقل تشتت جهدهما عن إعادة البناء وتأسيس دولة الحريات والنهضة. وإذا أخضعنا تشكيل الحكومة لأي منهج علمي في التحليل والتدقيق لما كانت النتيجة أبداً في صالح مثل هذا الارتجال الذي يقزم الوطن ويخصم من رصيد بالكاد حاولت الثورة استعادته ولن نسمح بالتفريط فيه. وحاول تطبيق معايير الفوضي وتعريفها علي هذه الحكومة فماذا تجد غير التناقض وعدم الانسجام مع منطق الأشياء والفطرة السليمة والعقل، هل يتوقع أحد أن تقوم ثورة علي نظام فاسد فاشل وحكومة عاجزة مخربة، فتكلف الثورة أحد أقرب وزراء هذا العهد ليرأس حكومة الثورة، وإذا ارتضينا في بداية الثورة أن نعطي فرصة للفريق أحمد شفيق لما يتمتع به من قدرة علي العمل الميداني والإنجاز أن يشكل حكومة إنتقالية فقد خيب آمالنا وأعادنا إلي المربع رقم واحد مرة أخري، بإصراره علي وجوه مرفوضة ومتناقضة مع توجهات الثورة وأهدافها، وبعضها عليه مآخذ مباشرة وانتقادات لممارسات تنتمي إلي نهج النظام المخلوع، وأيضاً إصراره علي عدم أداء اليمين الدستورية أمام رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة وكأنه إعلان ضمني عن تحديد ولاءاته في إتجاه نظام انتهت شرعيته ولايمكن أن يمتد قسمه أمام الرئيس السابق ليشمل عهد الثورة ويمثل أهدافه وتطلعاته. كيف تبقي هذه الحكومة علي أحمد أبوالغيط وزيراً للخارجية ليمثل ثورة قامت ضد نظام مثله أمام العالم سنوات طويلة، أي تناقض وأي عبث هذا، ناهيك عن فشل السياسات التي مثلها عربياً وأفريقياً وعالميا تسببت في أزمة مهددة مع دول حوض النيل وتقسيم السودان وغياب مصر عن محيطها الحيوي والإقليمي وتأخر دورها في مقابل تنامي أدوار قوي إقليمية مثل تركيا وإيران وحتي إسرائيل الذين راحوا يلعبون في ملعب خال من مصر في إفريقيا ولبنان والسودان وسوريا والعراق وفلسطين وأمريكا اللاتينية وآسيا، ولقد ساهم في تقزيم دور مصر والخصم من رصيدها باللعب مع الصغار وافتعال معارك وهمية مع تركيا وإيران وحزب الله وسوريا وقطر وحماس وغيرها. لقد استبعد إحتمال الثورة في مصر بعدما قامت في تونس ونعتها بأنها كلام فارغ فكيف يصح اليوم أن يمثل توجهاتها التي هي بالضرورة غير تلك التي مثلها في عهد سابق. ولماذا الإبقاء علي ممدوح مرعي وزير العدل الذي ساهم في تزوير إرادة أمة بتزوير الانتخابات البرلمانية وسمح بعدم تطبيق القانون والالتفاف علي الأحكام القضائية وعدم تنفيذها والتلاعب بالاستشكالات أمام المحاكم غير المختصة وساهم في ضرب استقلال القضاء وتصفية النوادي من تيار الاستقلال. وكيف تبقي هذه الحكومة علي وزير داخلية لاأحد يعرف ماهو دوره بالضبط في إعادة ترتيب جهاز الشرطة وعودتها إلي ممارسة دورها، ناهيك عن نسفه للثورة بإقراره أمام شاشات الفصائيات بأنه لافرق بين قبل 25 يناير وبعده وترديده نفس الأحاجي والترهات القديمة البالية عن القلة المندسة والأجندات الخاصة، أين الشرطة؟ وماهي خطته وهو الذي ضربت الثورة وأهينت مصر في واقعة الجمال والبغال الشهيرة يوم 28 يناير ولم يحرك حتي اليوم ساكناً. كيف تستوزر هذه الحكومة صاحب مقهي ثقافي هادف للربح ليمثل حضارة مصر وثقافتها وقواها الناعمة. الثقافة المصرية أكبر من محمد الصاوي الذي شاهدته في حوار مع المذيعة ريم ماجد فوجدت رجلاً غراً خفيفاً بلاعمق ولارصيد من فكر أوثقافة بادية وتجلت في مفرداته السطحية والسذاجة الذين بدت معهما المذيعة أكثر تماسكاً وإقناعاً منه. وإذا صح ماشاع عن أن الفقيه يحيي الجمل هو الذي رشحه لكانت سقطة كبري. وزير ثقافة مصر لابد أن يكون علي قدرها ممثلاً لقوتها الناعمة مثقفاً موسوعياً صاحب رؤية وحضور يعرف لغة العالم ويفهم دور مصر في إقليمها وعالمها ويتكلم عدداً من اللغات الحية، لا هذا الذي يقزم من قدر مصر ومكانتها. لاتهينوا مصر ولاتكرروا نفس الأخطاء التي ذهبت بنظام وقامت عليها ثورة. إن أصرار الحكومة علي وجوه بعينها تشعر الناس بألا شئ قد تغير، هو نوع من العبث لايتسق مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورة ويتناقض معه، وهو بذلك يعد بالتعريف العلمي نوعاً من عدم التناسق والإنسجام أي "الفوضي". مانكتبه اليوم في مقالاتنا ليس بعيداً عما قلناه من قبل ولم نجد له صدي عند حكومة شفيق ولا من قبلها، في ضرورات التحديث والتقدم والنهضة، وكيف نراهن علي التعليم والبحث العلمي في الدخول إلي عصر إقتصاد المعرفة، لنتحول كما كل الدول المتقدمة في العالم الحر من عصر الأيديولوجيا إلي عصر التكنولوجيا، الذي ليس فيه مكان للقاعدين والمتخاذلين والمتلقين والمستهلكين غير المشاركين في نهضة العالم وتقدمه. وهي مقالات علي الأقل في حوزة د.يحيي الجمل الذي هاتفني ذات يوم بعد نشر مقال عن تطوير التعليم والبحث العلمي وناقشني وأبدي تقديره وإعجابه وكان تعليقه:"لو كانت لدينا حكومة جادة تعرف دورها وأولوياتها لاستدعاك د.نظيف علي الفور وطلب إليك أن تضع هذه الأفكار موضع التنفيذ". وطلب إرسال مجموعة المقالات إلي مكتبه. الآن يا دكتور يحيي, وأنت في موقع المسئولية أخذتك المشاغل ولم تدعو أحداً من العلماء المفكرين المهمومين للحوار الوطني الذي ينبغي أن يؤسس لمشروع علمي للتحديث والنهضة وتطوير التعليم والبحث العلمي والإقتصاد والسياسة. هناك خطأ ينبغي تداركه، وهو نفس الخلل الذي دفع الرئيس السابق للحوار ساعات مع طلعت زكريا وبعض الممثلين والممثلات ولم يسأل أو يحرك ساكناً بشأن مشروعنا للنهضة العلمية، للدخول إلي عوالم "الساينس بارك" والمدن التكنولوجية وإقتصاد المعرفة الذي أجهضه أحمد نظيف وهاني هلال وكان مثاراً للتعجب والاستياء في الإعلام المصري والعربي والمحافل العلمية الدولية، بينما السلطة المصرية في سبات عميق. مالكم كيف تحكمون؟. عندما كتبت في الأخبار سلسلة مقالاتي الأخيرة "من الثورة إلي النهضة..كيف؟" لم يناقشني من الحكومة أحد. لماذا خصام السلطة مع العلم والعلماء، ومتي تهتم الحكومة المصرية بما يفيد الوطن وتقدمه، ذلك في الوقت الذي يقتطع فيه السيد رئيس الوزراء من وقته لمداخلة مع العاشرة مساء عن مشكله بين سيادته وأحد المذيعين، هذا لايدخل في دائرة إستجابة الحكومة والاهتمام بالرأي العام بل يعد في إطار لزوم مالايلزم، وهونوع من التشتيت وخلل ترتيب الأولويات، والتفريط حيث يتوجب الإقساط والإنصات والاهتمام. إن تركيبة الحكومة ومواصفاتها تصمها بالاضطراب وعدم وضوح الرؤية والتضارب والتضاد، وجميعها مثالب تهدد الثورة وطموحاتها، ذلك أنها تجافي أبسط قواعد العلم التي تحتم التناسق مابين التكوين والأداء والتركيب والوظيفةSTRUCTURE - FUNCTION RELATIONSHIP التي لايصح أحدها إلا بصحة قرينه، وإلا أدت المقدمات إلي غير نتائجها. ياسادة منهج العلم لايعرف أنصاف الحلول ولا القص واللصق ولا الإقصاء من ناحية والمحاباة من ناحية أخري، ومنهج العلم نفسه هو الذي يقضي بأن حكومة الفريق شفيق يتوجب تغييرها، فهي حكومة استثناء من قانون العلم، والاستثناء ضد المنهج العلمي الذي أبداً لايقبل أن تكون الفوضي صناعة حكومية.