منذ أسبوع، رحل عن عالمنا الروائي المتعدد المواهب أمبرتو إيكو عن 84 عاماً. فهو فيلسوف وباحث وأستاذ لغوي وناقد أدبي ورائد في مجال الدراسات الثقافية، فضلاً عن كونه الكاتب الأكثر مبيعاً في العالم، فقد تُرجمت أعماله إلي عشرات اللغات، كانت أشهرها رواية (اسم الوردة، 1980). وفي حوار أجرته معه الكاتبة الإيطالية باتريشيا جاي في (بابلشر ويكلي) قبل وفاته تحدث إيكو عن الكتابة، قائلاً إنه يري نفسه عالماً أكثر من كاتب، فهو لا يكتب إلا في عطلة أسابيع الصيف! في شقته المكدسة بالكتب في مدينة ميلانو، التقت باتريشيا بإيكو، إذ وجدته رجلاً ضخماً، له شخصية مغايرة تجعله قريباً من الكمال. كان إيكو يتصرف معها بتلقائية كأنها صديقة، أو من أحد أفراد العائلة، بدا ذلك واضحاً في عدم تكلفه في الملابس، فقد استقبلها بملابس كاجوال، محتضناً بين أصابعه سيجارة غير مشتعلة. وحين وقعت أنظار باتريشيا عليها، أوضح لها: "لم أدخن منذ 11 عاما، إلا أنني لازلت في بعض الأحيان أتناول سيجارا صغيرا دون إشعال". تناول الحوار مواضيع عدة عن الأكاذيب، والزيف، والإنترنت، والصحافة، والمخطوطات الأثرية، وأزمة منتصف العمر، والروايات الجديدة الرائجة، وآخر رواياته المترجمة إلي الإنجليزية (الرقم صفر، 2015) والتي تدور أحداثها عام 1992، إذ تتناول التلاعب وجنون العظمة في مرحلة الصحافة الكلاسيكية، فقد أراد إيكو أن تكون أجواء الرواية قبل ظهور الانترنت، لكي يكون هناك بعد تاريخي، فيري أن الصحافة وقعت في أفخاخ كثيرة بعد ظهور المواقع الإلكترونية. وإلي نص الحوار.. لماذا تعتقد أن وسائل الإعلام ترتكب خطأ حين تبث الحملات الانتخابية في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية؟ الإعلام لا يملك سوي التكهن، ففي شهر ديسمبر مثلاً ننتظر نحن الأدباء التوقعات بالفائز بجائزة نوبل، نسمع أسماء كثيرة ومراهنات وتنبؤات، وقد يفوز في النهاية كاتب لم يُذكر اسمه. هذه هي الطريقة التي يعتمد عليها الإعلام، فهو لا يحتمل الانتظار، ويجد بث الشائعات الوسيلة الوحيدة المتاحة. لذا فهم يعرفون كيف يحولون اللاخبر إلي خبر، أسلوبهم هذا اتسع ليشمل عالم السياسة، ففي مناظرة كينيدي ونيكسون رأينا كيف تتحول السياسة إلي مسرح يُسلينا، لقد خسر نيكسون لأنه لم يحلق جيداً، بينما فاز كينيدي لأنه حافظ علي رأسه بعض الشيء، وتلك ليست نفس الأسباب التي أدت إلي فوز ترومان وأيزنهاور أو روزفلت في الانتخابات. ومنذ ذلك الحين ظلت الأمور تسير علي هذا المنوال. مكتبتك تضم نوعية من الكتب المُصنفة بين الرمزية والفضولية والسحرية، لماذا تحب هذه الأعمال؟ سؤالك هذا، كأنكِ تسألين أحدهم لماذا تتسلق مونت بيانكو أعلي قمة في إيفرست. شغفي لهذه النوعية من الكتب ظهر حين كنت أكتب (بندول فوكو) عام 1989. خلال تلك الفترة درست نظريات - تعود لزمن سحيق - تشمل الحكمة المخفية الغامضة مثل السحر والروحانيات والإدراك خارج الحواس وغيرها. بخصوص "بندول فوكو" التي تدور حول رغبة ثلاثة من المحررين في تأليف خطة تأسيس العالم، خطة تبرر أحداث التاريخ، وتبرر وجود البشر علي سطح الأرض، وتبرر أيضًا وجودهم، هل أنت الذي كنت تبحث عن ذلك؟ يضحك إيكو قائلاً: أنا من اخترع دان براون، وقد استخدمته في هذه الرواية، فكان إحدي شخصياتها. دائما ينتابني هاجس، بصفتي عالما أيضا، بشأن الزيف الأمريكي، وكتبت مقالات عن هذا الزيف طارحاً السؤال: ما هي الحقيقة؟ الحقيقة شيء غاية في الصعوبة، في حين أن من السهل التحدث عن الزيف، لذا رواياتي هي أسلوبي لفهم التزوير والكذب. هل كتبت (اسم الوردة) لتبحث عن الحقيقة؟ لا أعرف، كنت علي وشك بلوغ الخمسين من العمر، وفي الخمسين يدخل الرجل في أزمة منتصف العمر، فوجدت أن أكثر ما يريحني هو تأليف الروايات، وهناك سبب آخر هو أنني أكاديمي وصلت إلي ذروة حياتي المهنية، وكتبي نشرت بمختلف اللغات، من هنا انطلق التحدي إلي محاولة فعل شيء آخر، أيضا امتلاكي القدرة علي النثر السردي، نفثت عنه بسرد الحكايات لأولادي، وبعد أن كبروا أردت ان أحكي قصة لشخص غريب، السبب الخامس هو أنني كان لديّ حاجة مُلحة لفعل ذلك. في يوم أخبرتني صديقة كانت تعمل في دار نشر صغيرة أنها مُهتمة بنشر قصص بوليسية قصيرة، في حوالي مائة صفحة، فأخبرتها أنني لو كتبت شيئاً فلن يقل عن خمسمائة صفحة، وسوف تجري أحداثه داخل دير يعود للقرون الوسطي، فرفضت، لكنني عندما عدتُ إلي البيت وجدتني أكتب قائمة بأسماء الرهبان، لذا، يمكنك القول أن ما جعلني أفعل ذلك هو اللا وعي. متي تكتب؟ ليست هناك قواعد، أكتب عندما أستطيع، وحين أحب، أكتب في الليل، حين تعوي الكلاب. وفي الغالب يستغرق كل عمل ست سنوات، وحدها رواية (بندول فوكو) التي استغرقت ثماني سنوات. وحين أبلغ التسعين سوف أتحدث معك عن عملي الجديد! ■ مرفت عمارة