وسط هطول الأنباء وانهمارها علي امتداد أسابيع من مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين، كان أحد المشتركات اللافتة في مواجهات النظم التسلطية »جمهورية أو ملكية« مع حركات الاحتجاج والثورات ضد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، هو استخدام تلك النظم فرق ترويع ومطاردة عمادها قوات غير نظامية، أو مجموعات من البلطجية والمجرمين أو المرتزقة. وتلك الظاهرة لا ينبغي النظر إليها فقط من زاوية الفاعلية وتحقيقها للأغراض العملياتية من عدمه ولكنها بيقين الوسيلة الأكثر مباشرة ونفاذا للتعرف علي مزاج النظم التسلطية، وبالذات تلك التي تخلقت في المنطقة العربية، وهي بالقطع الأسوأ ضمن النظم التسلطية دوليا وتاريخيا. وقد سجلت عدداً من الانطباعات والأفكار حول هذا الملف وأعرضها علي النحو التالي: أولا: ان المهمة الأساسية لتلك القوات غير النظامية هي ارتكاب جرائم إرهاب وقتل ضد المتظاهرين من جهة، وترويع المواطنين وإجبارهم علي التزام البيوت يخنقهم الخوف من جهة أخري، يعني إشاعة الرعب غير الشرعي بدلا من التحاف الهيبة الشرعية. إذ أن الانتفاضات الشعبية ضد النظم الاستبدادية أسقطت هيبة النظم في تونس ومصر وليبيا واليمن بما أظهر حاجة تلك النظم إلي ردع الناس عبر القتل، وباستخدام سواتر وتمويهات لا تؤدي إلي اتهامها مباشرة بارتكاب الجرائم. بعبارة أخري استخدام تلك الغرف هو تخطيط يقصدر ارباك وإفشال قراءة الخارج أو المجتمع الدولي لتلك الأعمال وحقيقتها وكنهها، وبحيث تبدو وكأنها أعمال لأنصار نظم، هي في حقيقة أمرها بلا أنصار. ثانيا: المتأمل لشكل تلك القوات والمهام التي أنيطت بها، يدرك انها تعكس كراهية حقيقية من النظم التسلطية للشعوب التي حكمتها. فالرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي قام بتشكيل ميلشيات البلطجية قبل ثلاثة أشهر من خلعه، ثم كان خطابه الثاني يوم 31 يناير الفائت »والذي استبق خطاب الخلع الأخير« هو بمثابة ساعة الصفر لإطلاق وحدات البلطجة من عقالها متحركة بالسيارات بين الأحياء، ومدججة بالسلاح، ومستهدفة إشاعة وإذاعة شعور عميق بالخوف في نفوس أفراد الشعب، يمكن عن طريقه إعادة فرض السيطرة، أو التشويش علي الناس وصرف انتباههم عن عمليات نهائية أخيرة لنزح الثروات، أو تهريب أفراد ينتمون إلي عائلات القادة أو رموز النظام. ثم كانت عمليات إطلاق المساجين والبلطجية في ليلة الرعب المصرية الشهيرة »82 يناير«، وتلتها بالطبع موقعة الجمل المروعة في ميدان التحرير ظهيرة وليل الثاني من فبراير، والتي استخدم فيها النظام مجموعات من المجرمين تتقدمهم الجمال والخيول والبغال لتشتيت كتلة المتظاهرين وتحطيم تماسكهم، وفي محاكاة لحروب الأزمنة الغابرة »الفيل الحبشي في الهجوم علي الكعبة، أو الأفيال التي تقدمت جيوش هانيبال القرطاجي في هجومه علي روما، أو أفيال كسري لتشتيت جيوش المسلمين في القادسية«. وهذه الواقعة رغم انها محل تحقيق الآن ولا يجوز استباق نتائج ذلك التحقيق بأحكام نهائية إلا ان شواهدها، وربما قرائنها تشير بوضوح لا لبس فيه إلي مسئولية بعض قيادات الحزب الوطني ورموزه من رجال الأعمال عن الدفع بحجافل من البلطجية والحيانات الضخمة لتفريق المحتجين الثائرين، واستخدام السلاح الأبيض وزجاجات المولوتوف لقتل الناس علي نحو ربما تتردد في القيام به قوات غازية أجنبية ضد شعب تغزوه لتقتله أو لتأسر أفراده. وفي اليمن دفع نظام علي عبدالله صالح بميلشيات قيل انها تنتمي إلي حزب المؤتمر الشعبي الحاكم ؟؟؟ تضرب الثوار بالأحجار، والعصي، والسلاح الأبيض، وبالذات علي باب الجامعة. وحتي في المنامة »محدثة الاحتجاج« ثم الدفع بمن يتحرشون بثوار دوارة اللؤلؤة ويعتدون عليهم بالضرب. أما التجلي الأكبر لتلك الظاهرة فكان في ليبيا حين دفع الدكتاتور معمر القذافي يوم 02 فبراير بفرق من المرتزقة استجلبها عبر سنوات من صربيا وروسيا ورومانيا، وعدة بلاد افريقية ضمنها تنزانيا من جهة، وبلاد ناطقة بالفرنسية من جهة أخري. وربما ينبغي هنا رغم خلافي المزمن مع سياسات وتوجيهات الرئيس أنور السادات ان أسجل له لمحة عبقرية، حين كان أول من اكتشف ان الرئيس القذافي »مجنون«، وأشاع وأذاع تلك الحقيقة في أصقاع الأرض جميعا، قبل أن يكتشفها اخرون. الرئيس القذافي أطلق مرتزقته الغاشمة التي ينتمي بعض أفرادها إلي تشكيلات أمنية خاصة كانت تحاول سنادة نظام الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو في تهاويه وسقوطه، وصارت تلك الميليشيات بعد انتهاء نظامها، كمثل أرملة الفقيد، فإذا بالقذافي يقتنيها ويسكنها معسكرات خاصة في ليبيا لتتدرب علي مهام موجزها هو حماية الطبقة الحاكمة، ومواجهة الشعب الغاضب. .............. في جميع السوابق التي ذكرتها، كانت سلوكات وأمزجة النظم السلطوية العربية تعكس احتقارا عميقا للشعوب، وكراهية حقيقية، علي الرغم من أطنان أوراق الخطابات الرسمية التي تتغني بالعلاقة بين الحاكم والجماهير. وبالطبع فرن الخطب والشعارات السياسية قادرة علي خداع بعض بسطاء الناس، ولكن القرارات والسياسات المضادة لمصالح الناس لا تخدع أحدا، ثم المواجهة والترويع والقتل لحظة الثورة هي أدلة ساطعة دامغة تقول بأن تلك أنظمة تكره شعوبها، وقد أعدت كتائبا متوحشة لضرب الناس، والاعتداء علي حيواتهم، وإخافتهم حتي الموت، وعلي نحو لا يمكن المجتمع الدولي، أو أية سلطة قانونية محلية آن يصلا بسهولة إلي هوية المرتكبين أو طبيعتهم. يعني هي جماعات أعدتها تلك النظم بليل لقتل شعوبها دون السماح بحساب القتلة أو من حرضوهم، أو تعطيل الوصول إليهم. ثالثا: إعداد تلك الجماعات الإجرامية يشي دائما بعدم ثقة النظم التسلطية في قواتها النظامية، والتي مهما كانت ارتباطاتها وولاءاتها لأمن واستقرار النظم، فإنها في لحظة مواجهة شعبية كاشفة، سوف تنحاز في نهاية النهار إلي الشعب، وهو ما حدث في أكثر من موقف علي الساحتين التونسية والليبية، ثم كان تجلبه الأكبر والمحترم في مصر التي لم ينحاز الجيش فيها إلي الناس فحسب، ولكنه هندس الشرعية الجديدة للحكم، وحافظ علي المؤسسات، وانهمك يعد لمرحلة عبور ديمقراطي ودستوري جديدة وعلي نحو يستجيب لمطالب الثوار، واحتياج المجتمع. يعني الجيش في مصر كان أكثر »مؤسسية« وتصرف بسرعة الإزاحة نظام مرفوض، وإحلال نظام مشروع. وربما كان أمين سياسات الحزب الوطني أكثر من عبر عن مفاجأة النظام السابق قبل سقوطه بكل ما يحدث حوله، حين وصف لبعض أصدقائه وخلصائه من عيال أمانة السياسات ما جري في تونس بأن »الجيش نزع الكوبس فانهار كل شيء«، من دون أن يدري أو يفهم أن يد الجيش المصري سوف تنزع الكوبس بعد أيام في مصر فينهار نظام انتفض المصريون ضده ثائرين. نهايته.. عدم ثقة النظم الاستبدادية في القوات النظامية هو الذي يدفعها إلي هندسة وبناء حلقات أمنية متعددة حول الحكام المستبدين وضمنها تلك الحلقات الإجرامية من البلطجية والمرتزقة، وهي ان نجحت في قتل الناس وترويعهم في الأحداث الأخيرة فقد فشلت في نهاية المطاف ان تحمي النظم أو الحكام، أو تواجه انحياز القوات المسلحة إلي الشعوب أيا كانت الاختلافات في شكل ذلك الانحياز بين مجرد السنادة الميدانية أو الحفاظ علي كيان الدولة كما في الحالة المصرية بالذات. رابعا: ان التنسيق الميداني علي الأرض في أحداث تونس ومصر واليمن وليبيا بين كتائب البلطجية والمرتزقة، والحزب الحاكم في كل بلد، يوصي بأن جماعات الترويع والبلطجة هي بمثابة الجناح العسكري للحزب الحاكم في أي منها. يعني أدوات القهر المادي للسلطة »بلغة العلوم السياسية« في مثل تلك النظم، والتي تضم الشرطة والإعلام والحزب الحاكم اختزلت نفسها في نهاية النهار إلي حزب وبلطجية في مواجهة ثائرين، وتلك معادلة أرجو الانتباه إليها لأنها تشي بنوعية الأحزاب الحاكمة التي تم توظيف قدراتها من جانب طبقة تقودها أو جهاز أمني يتحكم فيها، لتقوم بأدوار في أبسط أوصافها ضد الجماهير. فإذا أردنا تصور الحالة المصرية من هذا المدخل سنقول ان قيادات الحزب الحاكم »وقوامها الأساسي بعض رجال الأعمال الذين يتواصل سقوطهم الآن في قبضة القانون« دفعت بجماعات المجرمين والبلطجية والمرتزقة لمواجهة الناس وقمعهم. وبهذا المعني فإن علي تلك الأحزاب الحاكمة في مختلف الدول العربية التسلطية »لو قدر لها الاستمرار بعد الاعتذار للشعوب« ان تعيد النظر في عقيدة تكوينها، والتي تخاصم الجماهير وتعاديها وتترصدها حتي القتل، وبالنحو الذي شهدناه. وربما كان التجلي الأكثر وضوحا لتلك العلاقة بين رجال الأعمال والبلطجية هو العمل المخيف الذي يجمع المراقبون علي قيام رموز من الحزب الوطني به في ميدان التحرير يوم 2 فبراير، عبر محاولة قتل المتظاهرين تحت سنابك الخيل وأخفاف الجمال. استخدام البلطجية والقتلة والمرتزقة نقطة كاشفة جدا في توصيف علاقة نظم سابقة »أو في سبيلها إلي السقوط« بالناس.. وهي كذلك أحد الدروس المهمة جدا في مرحلة نتطلع فيها جميعا إلي المستقبل، ورلي بناء نظم عصرية لا نسمح فيها أبداً بتكرار تلك المنزوعات الإجرامية والمخجلة معا!