تعودت احدي المؤسسات العلمية الاستراتيجية في البلاد دعوتي لأكون محاضرا تحت عناوين: (الدعاية والحرب النفسية وتصميم الرسائل السياسية) وبالذات في دورات للدارسين العرب الذين يفدون إلي تلك المؤسسة علي نحو متواتر. وفي مطلع الألفية الثالثة، وصلتني دعوة من ذلك النوع، ولكنها استرعت انتباهي إلي نقطة الحد الأقصي، اذ تحدد فيها زمن الدورة بيوم واحد، كما تحدد عدد الدارسين بشخص واحد. والحقيقة أنني - دائما - مقبل علي عملي المهني أو العلمي أحاول تحقيق أكبر الأثر فيه عبر الاحتشاد المعرفي، وتنويع الاقترابات واكتشاف المزاج السائد عند المتلقين (الدارسين -المشاهدين- القراء) أو- علي الأقل- تحديد المتوسط الحسابي السائد للأمزجة المتنوعة عند الجمهور الذي أخاطبه. أما حكاية دارس واحد ليوم واحد، فكانت بالنسبة لي أمرا عجيبا، وأصدقكم القول، فإنني للمرة الأولي (وسط الارتباط بمحاضراتي في كليات ومعاهد الإعلام كأستاذ زائر، أو في بعض المعاهد النوعية المتخصصة) وجدت دافعي الأول ليس اتقان واحكام موضوع المحاضرة ومن ثم نجاحها، ولكن هاجسي الوحيد كان هو فضول التعرف إلي ذلك الشخص الوحيد الذي سأتحدث معه وإليه يوما كاملا من بواكير الصباح في الثامنة، إلي ما قبل المغارب في الرابعة. علي أية حال حين دخلت قاعة المحاضرات، ووجدته جالسا علي كرسيه في مواجهة منصة المحاضرة، استهولت الفراغ وتهيبت التجربة، وتلك القاعة التي تخلو إلا من ذلك الدارس، ومنضدة صغيرة خلفه، رصت عليها منظومات من زجاجات المياه المعدنية، وكولومان للماء الساخن، وعبوات صغيرة من الشاي والبن والنعناع واللبن والسكر، وطبق من البسكويت. وأحسست -لهنيهة زمن- انني رأيت ذلك الشاب الماثل أمامي من قبل، وأن ملامحه تبدو مألوفة إلي درجة غير طبيعية، ووسط محاولتي الخاطفة لتذكر صاحب تلك الملامح، التي بت متأكدا انني -بالفعل- أعرفه، وانه ليس مجرد واحد من الأربعين الذين خلق الله الشبه بينهم! قفز إلي ذهني -علي نحو مباغت صاعق- ان ذلك الشاب يشبه العقيد معمر القذافي في شبابه إلي درجة التطابق، ولكن بمقدار أكبر من النحافة وببشرة أكثر سمرة، فبادرته بالتساؤل: »من أي بلد أنت؟« فابتسم مجيبا بصوت خفيض وشديد التهذيب: »من الجماهيرية«، تشجعت باجابته مشارفا قدرا أكبر من الوثوق في صحة تخميني، وعاودت سؤاله مخالفا أعراف العلاقة بين محاضر يري الدارس أمامه لأول مرة، وفي مؤسسة نوعية متخصصة: »هل أنت من قبيلة العقيد القذافي أو من أحد أقاربه؟!«، فقال: »أنا الرائد خميس معمر القذافي من سلاح المدرعات الليبي«!! وغبطت نفسي علي فراستي وأديت واجبي بالشرح والمحاضرة. تذكرت وقائع ذلك اليوم، ووجه ذلك الدارس حتي تواترت الأنباء تتري من ليبيا في الأيام الماضية، لتحكي عن ثورة شعب طال تطلعه إلي الحرية والكرامة والكبرياء، واستلب منه النظام الليبي التسلطي الدراكولي جملة حقوقه وتفصيلها تحت عناوين وتنظيرات مفرطة في ركاكتها وخرافتها عن (الكتاب الأخضر) الذي وضع بعض الإعلاميين الرسميين المصريين كتبا لتحليله والتغني بعمقه، و(اللجان الشعبية) وان (الديمقراطية أو التمثيل تدجيل)، وأن الكلمة أي »ديموكرسي« تعني دمومة الكراسي، وغيرها من الخزعبلات التي يعد طرحها علي شعب، ولا أقول اجباره عليها اهانة في ذاته ولذاته. اذ وسط الأنباء التي رشحت من ليبيا -رغم قتامة المنع والحصار وقطع الاتصالات- كانت المعلومات التي أشارت إلي اسم خميس معمر القذافي، والدور بالغ التوحش الذي قام به في محاولته قمع أهالي بني غازي، واخماد جذوة ثورتهم، أو ازاء ضباطه وجنوده والصف الذين تمردوا علي الأمر العسكري، ورفضوا اطلاق النار علي الجماهير من اخوتهم وذويهم وأبناء قبائلهم. نعم.. الرجل الذي تحدثت إليه ليوم كامل، ذو الصوت الخفيض والأدب الجم، هو ذلك المتوحش الذي وصلتنا أخبار بتنفيذه تعليمات أبيه المتعاقبة التي أصدرها في لوثة التمسك حتي اللحظة الأخيرة بالحكم ومقاليد السلطة وصولجانها، صارخا: »إلي الأمام.. إلي الأمام.. ثورة.. ثورة« ثم ضاربا بقبضة يده علي منصة خطابية في الساحة الخضراء بطرابلس. خميس.. الشاب- الذي قضي سنوات يدرس العلم العسكري في المؤسسات المصرية، ويستكمل معارف ضرورية حول ذلك العلم- هو الذي وجه مواسير وفوهات مدافع الدبابات إلي صدور الأحرار في بني غازي، وكان أحد رموز واحدة من أكثر الحملات دموية في التاريخ الإنساني. عدت إلي مذكراتي التي دونت في بعض صفحاتها سطورا عن محاضرتي لذلك الرجل، ووجدت فيها تسجيلا مفصلا لانطباع داخلني وصار هو المهيمن علي ذكرياتي عن الشاب (وقتها) وعن حديثه الشحيح، اذ كان صموتا وجوانيا حتي مع محاولتي -كعادتي- استدراج طلبتي إلي الحوار باعتباره أفضل سبل التعلم. كانت محاضرتي عن (الدعاية السياسية وتصميم الرسائل) تحتم أن أعرض لنماذج مختلفة من الأنظمة السياسية وأجهزة الدعاية فيها زمن الحرب وزمن السلم.. وكانت تلك هي النقطة الوحيدة التي استوقفني فيها خميس، وحاجاني -طويلا- حول نماذج نظم طرحتها عن (الدول الديمقراطية) و(دول العالم الحر). اذ بدا الرجل الصغير مقاوما -تماما- لفكرة قبول ذلك النوع من النظم بصرف النظر عن أساليبها في الدعاية، أو تسويق أساليب الحياة فيها، أو تصميم الرسائل وفقا لما يسمي (المزيج الاقناعي) بغية إحداث أكبر الأثر في متلقيها. امتنع خميس عن الحوار في موضوع المحاضرة (الدعاية وتصميم الرسائل الاتصالية)، وصب جل اهتمامه علي الحديث المستنكر إلي درجة تشارف الاحتقار، والغاضب إلي درجة تلامس الاحتقان عن تلك (النظم) وتلك (الديمقراطية). وبطول بال وصبر كبيرين أوصلت الرجل -عبر الحوار- إلي منطق ان رأيه في تلك النظم لا يمنع دراسته لأساليبها في الدعاية، وتصميم الرسائل، ولكنه -مع ذلك- حاول معرفة وجهة نظري أنا في النظم الديمقراطية الحرة! وعلي الرغم من أدبه الشديد، فقد بدا لي تساؤله خرقا للتقاليد العلمية، ومحاولة للتفتيش شبه الأمني في دماغ محاضر ينبغي عليه التزام أكبر قدر من الحياد العلمي فيما يطرحه ويشرحه من معلومات. نهايته.. فرغت من تلك المهمة المدهشة، وظل اسم خميس يحضر إلي مخيلتي كلما قرأت في شريط الأخبار شيئا عن العقيد القذافي أو ليبيا.. حتي جاءت الثورة الشعبية النبيلة في ليبيا، وأفصحت الحوادث عن الدور المروع الذي لعبه خميس في اراقة دماء الشعب الليبي. أي نوع من التربية الشخصية والسياسية تلقاها ذلك الشاب علي نحو جعله يتأذي من توصيفي للنظم الحرة ودفعه إلي ارتكاب تلك الجرائم المخيفة جدا.. جدا؟! أي نوع من الآباء ذلك الذي علم أبناءه ان إرادة الشعب ينبغي وأدها في صدور أفرادها، وأن المعارضة والاحتجاج يقوم به المدنسون والأنجاس ولا يتم إلا تحت تأثير الأقراص المخدرة، وأن الثورة في طرابلس وبني غازي والبيضا وفزان وتاجوراء وغيرها هي مجرد (تقليد) لثورة 52 يناير المصرية التي قادها الشباب ولا تمثل فطرة الليبيين الحقيقية. ألم تك ثورة القذافي -نفسه- عام 0791 تقليدا - هي الأخري- لثورة الاستقلال الوطني المصرية عام 2591؟! نحن إلهام لغيرنا في الحالين ولكننا غير مسئولين -بالقطع- عن العناصر التي أوحت للقذافي بذلك النوع من الفكر التسلطي الفريد، والمزاج المعقد جدا الذي راكم التطورات التي راقبناها في شخصيته عاما وراء آخر حتي تحول إلي وحش أرضع أبناءه الوحشية، في حراسة آلة دعاية تعبوية جيشت الناس وراء أساطيرها وخرافاتها لعهود وعقود (وهي غير ما حاولت -أنا- تعليمه لخميس وقاومه جافلا ومعترضا). هي قصة دراماتيكية لاشك أردت تسجيلها في لحظة تطور الحدث وتخليقه لأنها تنبه إلي عبرة وعظة التاريخ التي تميل إلي نصرة الحرية، وتخاصم الاستبداد بكل تجلياته، وبجميع معتنقيه من المستبدين صغارا وكبارا!