لحظات خمينية الملامح. هكذا شاء البعض ليوم الجمعة الماضي أن يبدو في نظر العالم. هذا ما بدا لي لفترة من الوقت، منذ الصباح الباكر ازدحم ميدان التحرير حتي فاق الحشد كل توقع، مرة أخري يثبت الشباب قدرتهم علي الحشد، ماتزال الروح مشتعلة، متقدة، مصر اندلعت روحها ولم تهدأ، هذه الروح مكوناتها عديدة ومصادرها شتي، الدين أحدها وليس كلها، إنها روح مصر الوطن، وعندما نقول الوطن فإننا نعني المسلمين والأقباط وكل من يعيش علي أرض مصر، منذ اللحظة الأولي بدا أن الشباب يستدعون ثورة 9191 ضد الانجليز بكل تقاليدها، الشعارات، الهتاف، كلها تدور حول مصر الوطن، الأعلام المصرية كانت في الأيدي، اليوم هزني مشهد مؤثر، أحد جنود القوات المسلحة يقف عند مدخل الميدان يوزع أعلام مصر علي القادمين. علم مصر كان الغالب علي الميدان، ولكن عندما ظهر الشيخ القرضاوي خيم ظل علي الميدان، الشيخ جاء قبل موعد صلاة الجمعة بساعات معدودات، واعتلي منصة الميدان، كان ثمة شيء في هيئته وخطابه يذكر بالثورة الخمينية وتلك الثورة من أعظم ثورات الإنسانية، لكن مسارها مغاير للثورة المصرية، الثورتان تشتركان في البواعث والهدف، ضد الدكتاتورية والطغيان، لكن التوجه الأساسي في إيران كان دينياً، حل نظام الملالي محل الشاه، دكتاتورية رجال الدين محل دكتاتورية الشاهنشاه.. وماتزال إيران تعاني، الثورة المصرية بواعثها ومسارها وطني، الإسلام جزء من مكوناتها، كذلك المسيحية، يعي الشباب ذلك، وفي الأيام الأولي للثورة كان موقف الإخوان غامضاً ثم اتضحت مشاركتهم المحدودة شيئاً فشيئاً، الإخوان هم الحزب الوحيد في مصر المنظم، النشط، ذو هيكل منظم، ومن أفضل نتائج الثورة ظهورهم العلني حتي يبدو حجمهم الحقيقي، لكن ثمة فرق بين المشاعر الدينية العميقة للمصريين علي اختلاف معتقداتهم وبين جماعة تستخدم الدين للوصول إلي السلطة وعندئذ ستنشأ ديكتاتورية مخيفة وأمامنا نموذج وصول حماس إلي السلطة في غزة وسلوكها الذي أهدر وأضعف القضية الفلسطينية مقابل الاحتفاظ بالسيطرة علي الإمارة، نشط الإخوان خاصة بعد انتصار ثورة المصريين جميعاً، وحاولوا الظهور ومازالوا بمظهر الأقوياء الذين أشعلوا الثورة وبالتالي قطف ثمارها، الملايين التي احتشدت في ميدان التحرير من المصريين المؤمنين، لكنهم ليسوا أعضاء في الجماعة أو غيرها، ثمة فارق دقيق بين إيمان الشعب العريق، أول من اكتشف أن الوجود ليس عبثاً، وأن وراء الظاهر من يديره، المصريون القدماء هم الذين هدوا العالم إلي فكرة الإيمان، وأرسوا أصوله، لذلك ثمة فارق كبير بين المؤمنين بمستوياتهم المختلفة ومن يستغل الدين للوصول إلي هدف آخر. لقد تم ترتيب المشهد جيداً من قبل قوي تحاول ركوب ثورة الشباب وتوجيهها إلي أهداف ومسارات محددة، المشهد المهيب في ميدان التحرير كان له عدة قراءات، فمن سينظر إليه بدون أن يضع في اعتباره العمق الإيماني للمصريين والذي لا ينطلق من مذهب معين، ولا ينغلق علي رؤية محددة، سيظن أنه أمام مشهد إيراني، أي ثورة إسلامية، وهذا هو الهدف الكامن لبعض من شاركوا في الثورة متأخرين بعد بدايتها وكانوا مجرد فصيل، أما الذين يعلمون اتساع أفق المصريين، ومنطلقاتهم الإنسانية فسيقرأ المشهد بعمقه الديني والوطني، كان منبر الأزهر منطلقاً للجهاد في مختلف العصور، وقُدر لي أن أشهد الرئيس جمال عبدالناصر في عام ستة وخمسين يعتلي منبر الأزهر ويعلن أنه باق في القاهرة، وأنه مع أسرته، وأن الشعب المصري »سيقاتل.. سيقاتل« الدين من المكونات الرئيسية للمصريين، ولكن ليس من أجل تكوين نظام سياسي يستمد مقوماته منه، ولعل العلم المصري الغالب علي المشهد أحدث قدراً من التوازن بين المشهد الرهيب للمصريين الذين جاءوا إلي الميدان في سعي وحشد جوهره وطني وإنساني شامل، وأولئك الذين أرادوا للمشهد أن تكون خلفيته هناك، لحظة عودة الخميني إلي طهران قادماً من باريس، حاولوا تصويرها علي أنها موازية لعودة الشيخ القرضاوي بعد غياب ثلاثين عاما في المنفي القطري، وهنا لابد من توضيح، فلم يكن الرجل ممنوعاً من التردد علي مصر، كان يجيء ويعود، وإن كنت أعتبر التضييق عليه ومنعه من اعتلاء المنابر في مصر أمراً غبياً، تعسفياً، وعندما جاء الرجل مؤخراً إلي مصر، وقصد زيارة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، حاولت الأجهزة الأمنية الحيلولة دون إتمام اللقاء وهدد الدكتور الطيب بالاستقالة وتمت اللقاءات، هذا النوع من التدخلات السافرة، صغيرة الهدف، ضيقة الرؤية، يجب أن يتوقف، منع الشيخ القرضاوي من الظهور علي منابر مصر، وعبر قنواتها الفضائية يشبه منع الأستاذ هيكل طوال السنوات الماضية، كلاهما ملء السمع والبصر، والمنع لا معني له، لكن تحفظي علي مشهد يوم الجمعة بواعثه استثنائية اللحظة وفرادتها في التاريخ الإنساني ومن هنا كنت أتمني الحفاظ علي خصوصيتها بألا يتم إحالة المشهد الرهيب إلي لحظة أخري في التاريخ، لحظة لها خصوصيتها واحترامها، لكنها تختلف عن يوم الجمعة المصري، كنت أتمني أن يؤم المصلين أحد الشيوخ المصريين الأجلاء الذين شاركوا في الثورة، وكانوا مؤججين لها، لو أن الشيخ أحمد المحلاوي خطب في ميدان التحرير لاختلف المشهد تماماً، أو الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة في السويس وحافظ صمودها، وأحد الرموز الوطنية الكبري في مصر، كلاهما كان علي رأس الثورة ومن قادتها، كنت أتمني أن يخطب أحد شباب الثورة، تكتشفه الثورة وتقدمه، الشيخ القرضاوي عالم جليل، ربما كان من المناسب أن يخطب في صلاة الجمعة من فوق منبر الأزهر، عالم من الأجلاء، ولكن أن يتصدر المشهد الاستثنائي لانتصار ثورة لم يسهم فيها، ولم يتعرض لأخطارها، وأن يحرص ممثلو الإخوان المسلمين أو التيار الذي يدعو إلي الإسلام السياسي إلي إيجاد أوجه شبه بين ثورة إيران التي انتهت بحكم رجال الدين، والثورة المصرية التي انطلقت من مبادئ وطنية وإنسانية أشمل، حازت علي انبهار العالم، رسالتها الكونية وصلت إلي كل إنسان يعيش في الكوكب. لذلك أنبه إلي خطورة حصرها في اتجاه بعينه، الثورة المصرية من الثورات النادرة في تاريخ الشعوب، وهي من نقاط الانطلاق الكبري في التاريخ عامة وفي تاريخ مصر خاصة، وأستعيد هنا أقرب الثورات شبهاً من التاريخ المصري نفسه، ثورة 9191، رغم الفارق، فتلك كانت موجهة ضد الاحتلال الأجنبي، وثورة المصريين التي قادها الشباب كانت ضد الدكتاتورية والفساد، ضد ما يعطل ويعيق الحياة الإنسانية، لكن يجمع بينهما مصرية الثورة وأصالتها وخصوصيتها، كانت ثورة 9191 بداية الحقبة الليبرالية المجيدة في تاريخ مصر والتي انطلقت خلالها الروح المصرية عبر كبار مبدعيها، سيد درويش، مختار، أم كلثوم، توفيق الحكيم، محفوظ، سليم حسن وأسماء شتي في كل المجالات. إن ثورة الشباب التي أصبحت ثورة كل المصريين فرصة مبهرة لكي تتحول مصر إلي قوة عظمي مثل الصين أو ماليزيا أو الاتحاد الأوروبي، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء الدولة المدنية الكاملة بكل ما تعنيه حيث الكافة متساوون في الحقوق والواجبات وممارسة الحرية والشفافية، إن مصر وجوهرها الإنساني ملء العيون والأبصار في الكوكب كله، ومن المخاطر أن يحاول البعض صرفها إلي مسار بعينه أضيق وأقل محدودية، أو إحالة الثورة إلي مرجعيات قصية عنا، أو تبديل رموزها أولئك الذين قادوها واستشهدوا من أجلها بالقادمين من بعيد أياً كانوا.