لابد إذن لكي يكون التوجيه الصحفي ناجح الأثر في الشعب أن يكون قائما علي عنصرين هما الإيمان بالرأي، والاعتماد علي الحقائق والمنطق السليم كنا مجموعة من الأصدقاء، وتطرق الحديث عن مهمة الصحافة في توجيه الرأي العام خلال المرحلة الدقيقة التي يمر بها وطننا في الوقت الحاضر. قال أحد الحاضرين: إن الصحافة تقود الناس في مصر، تقف منهم موقف الأستاذ من التلميذ، تعطيهم ما تريد، ولا تأخذ منهم شيئا أو تأخذ القليل من آرائهم ثم تحوله وتديره علي النحو الذي تريده! واستطرد قائلا: إنني أقرأ أكثر الصحف والمجلات، وأعرف ما فيها من آراء، فإذا كونت لي رأيا وأردت نشره، فلا أجد بسهولة من ينشره لي، فالآراء التي تنشرها الصحف مقصورة علي أسماء معينة من الكتاب المعروفين أو الناشئين! وقال آخر: إن بعض الصحف تحاول أن ترضي في نفوس القراء غريزة حب الاستطلاع، أو غيرها من الغرائز، فهي صدي لما يطلبه القراء، أو يسعون لمعرفته خاصة في الأيام التي تلت قيام الثورة، فقد حفلت بالأخبار الخطيرة والمثيرة عن الفساد والمفسدين، وما أكثرهم! والواقع أن مهمة الصحافة في مصر أدق مما هي في غيرها من البلاد التي بلغت حظا أوسع مما بلغنا في الحضارة والعلم واكتمال الشخصية، فحيث تكتمل شخصية الأفراد، لا تستطيع الصحافة إلا أن تكون معبرة عن إرادة الأمة ممثلة في جمهور القراء، أما حيث تنقص العناصر المكونة لها، فإن المجال ينفسح أمام الصحافة لتلعب دورا أوسع مدي، وتكون مهمة الكتاب أقرب إلي التوجيه والقيادة منها إلي التعبير أو التعليق علي الأحداث، وإبداء الرأي فيها. علي أن الصحافة تعد مع ذلك في كثير من البلاد التي بلغت من الحضارة أكثر مما بلغنا شديدة التأثير في الرأي العام، ذلك أنها بفضل تغلغلها في شتي الأوساط، وتكرار ظهورها في أوقات متقاربة تؤثر في نفوس الناس حتي من بلغ منهم من الثقافة واكتمال الشخصية أكبر مبلغ، وتحولها بفضل الإيحاء من جانب إلي جانب، ومن رأي إلي رأي. وعند المفكر « الدوس هكسلي « أن حرية الناس في إبداء آرائهم ليست مطلقة من كل تأثير، وأنه لابد من مراحل طويلة من التطور حتي يبلغ المواطنون مبلغ الثبات الذي لا يتأثر بآراء الصحف وإذاعات الراديو والخطب والمحاضرات والندوات. ويضرب « هكسلي « تأييدا لآرائه أمثلة كثيرة مما يجري في أمريكا وبريطانيا وغيرهما، حيث تثار في بعض الأحيان حملات صحفية قوية تنجح في تحويل الرأي العام من اتجاه إلي اتجاه. غير أن أخذ رأي « هكسلي « علي إطلاقه فيه شيء من المغالاة فإذا لم تكن حملات الصحف قائمة علي توخي المصلحة العامة، ومعبرة ولو بعض التعبير عن اتجاه الرأي العام، فمن المؤكد أن مصير مثل هذه الحملات إلي الفشل، وأن أدركت في أول الأمر شيئا من النجاح. فلابد إذن لكي يكون التوجيه الصحفي ناجح الأثر في الشعب أن يكون قائما علي عنصرين هما الإيمان بالرأي، والاعتماد علي الحقائق والمنطق السليم، فإذا فقدت الصحافة أحد هذين العنصرين، ضعف تأثيرها، وقلة نفوذها. إن الخدمة التي تؤديها الصحافة للأمة - خاصة في هذه المرحلة - عظيمة القدر مادامت تتسم في توجيهاتها بالإخلاص، وتستوثق مما تروي من أخبار وأحداث، وهي جديرة بمكان القيادة والصدارة، ما دامت تسير علي هذه القواعد، ولا ضير أن يتأثر الرأي العام بها حينئذ، فإنها تقوده إلي الخير، وتنفث فيه من روحها، وتشده إلي أهداف لا شك في سلامتها ووطنيتها. واحترام الناس للصحيفة لا يكتسب من سعة الانتشار ولكن يكتسب قبل كل شيء من شفافية أغراضها، وإخلاص أهدافها، واستقلال آرائها، وحرصها علي تقديم الحقائق، ونفورها من التضليل والخداع والإثارة.