منذ عقود عديدة ماضية والأحاديث تتردد، وتتكاثر، تنديداً بالمستوي العلاجي والإداري المتدهور في مستشفي الأمراض العصبية بمنطقة العباسية. بأقلام وعدسات الزملاء الصحفيين والصحفيات، تابعنا وشاهدنا الكثير من الوقائع المؤلمة لما جري، ويجري، داخل هذا المكان الكئيب. لقد تنكر العديد من الصحفيين كمرضي نفسانيين وتم تحويلهم إلي مستشفي العباسية حيث أمضوا أسوأ وأتعس ساعات وأيام عمرهم، وعادوا بعدها ليقصوا علينا أبشع القصص عن أناس دخلوا للعلاج من مشاكل نفسية فلم يجدوا علاجاً، وإنما وجدوا إهمالاً وعذاباً زادا من الانهيارات العصبية بالنسبة للبعض، في حين أفقدا البعض الآخر البقية الباقية من صواب التفكير، ومن القدرات العقلية! الفن السينمائي المصري لم يتأخر هو أيضا في فضح كوارث هذا المكان المزري في أفلام ما يعرف ب »الكوميديا السوداء« أبرزها الفيلم الذي لا ينسي: »إسماعيل يس في مستشفي المجانين«، وغيره من الأفلام التي تروي مآسي نزلاء »العباسية« الذين أجبر كثيرون منهم علي دخولها لأسباب كثيرة من بينها المرض النفسي أو الانهيار العصبي! هناك من أودعوه بعد نجاحهم في إصدار حكم قضائي بالحجر عليه طمعاً في أمواله، أو للتخلص من مشاكله العائلية، أو.. أو.. إلي آخر ما يمكن أن يرتكبه الإنسان أحياناً في حق أخيه الإنسان! رغم كل ما قيل ويقال عن مستشفي العباسية لم نسمع أن حكوماتنا الواحدة بعد الأخري بذلت جهداً حقيقياً لإنقاذ هذا المستشفي الذي كان في الماضي البعيد صرحاً طبياً يشار إليه بالبنان. مناسبة هذا الحديث ما أعلنه منذ أيام وزير الصحة الحالي الدكتور حاتم الجبلي، عن الأولوية التي قرر منحها لإنقاذ عشرات الآلاف من المرضي النفسيين، وتوفير أفضل وأحدث ما توصل إليه الطب من وسائل العلاج، والاستشفاء، مع العناية والرعاية الكاملتين. وتوقعنا أن يحدثنا عن خطته التي ستعيد مستشفي العباسية إلي ما كان عليه قبل عقود عديدة سابقة، لكنه فاجأنا بأن الحل الذي لا حل غيره هو: هدم المستشفي وبيع الأرض من تحت أطلاله! قد يقال إن الرجل شديد الحرص علي شفافية ما يقوله، وما يفعله. وليس سراً أن الدكتور حاتم الجبلي كان، ومايزال، واضحاً مع نفسه ومع الآخرين. فهو لم ينف مطلقا أن عناية السماء منحته موهبتين رائعتين: موهبة النبوغ في تخصصه الطبي، وموهبة البراعة في إدارة الأعمال. الأولي تمهد للثانية، والثانية تكمل الأولي، ومن الصعب الفصل بينهما. الجبلي »الطبيب النابه« يريد بالفعل توفير أعلي رعاية، وأرقي عناية، لنحو 08 ألف مريض في مستشفي العباسية، لكن تحقيق ذلك يتطلب أموالاً طائلة تقتطع من ميزانية وزارته، مما يؤخر تنفيذ إصلاحات عديدة علي مستوي الجمهورية، فماذا يفعل؟ الجبلي »رجل الأعمال البارع« قدم الحل السهل الذي يرضي الطرفين: هدم أطلال العباسية، وبيع الأرض الشاسعة تحتها. وهناك العديد من المستثمرين مصريين وغير مصريين علي استعداد لدفع مئات الملايين من الجنيهات أو الدولارات أيهما أصلح؟ لشراء الأرض وتحويلها لمنطقة تجارية ومراكز تجارية. ولم ينس وزير الصحة أن يبشر نزلاء »العباسية« بأنه سيقيم لهم مركزاً طبياً علي أحدث مستوي علاجي، عالمي، في منطقة أخري. الفكرة التي توهم صاحبها أنها ستحظي بالترحيب من الخصوم قبل الأصدقاء، وجدت رفضاً وشجباً وتنديداً بها وبصاحبها، من قطاعات عريضة، متعددة الاهتمامات. هناك من عارض إشفاقاً علي آلاف المرضي الذين لم يجدوا سقفاً ينامون تحته، ولا علاجاً يحتاجون إليه. وهناك من يتوقع أن بيع الأرض سيدخل مئات الملايين لخزانة الدولة، لكن أرباح المستثمرين من مشروعاتهم فوقها ستبلغ بضعة مليارات علي الأقل.. وليس من مسئوليات الحكومة الجسيمة مضاعفة ثروات المستثمرين! وهناك من يؤكد أن المستشفي البديل في مدينة »بدر« التي تبعد 05كم من القاهرة لن يري النور! وحتي إن رآه.. فليس اليوم، ولا في الغد القريب، أو خلال إحدي الخطط الخمسية المستقبلية، بشرط استمرار د. الجبلي في منصبه. وهناك، أيضا، من يري وأنا معهم أن علي وزير الصحة أن يبدأ بالفرخة قبل البيضة، وليس العكس كما يعتزم. أي عليه الانتهاء أولا من بناء المستشفي البديل بكامل احتياجاته وتجهيزاته، وإدارييه، وأطبائه، وممرضيه وممرضاته، وموظفيه، وعمالته، وبعد ذلك يمكنه نقل مرضي مستشفي العباسية وخدماته إلي المستشفي البديل، توطئة لبدء الهدم وطرح الأرض للبيع في مزاد علني. قد يعترض د. الجبلي »رجل الأعمال« متسائلاً، ومُفحماً: »ومن أين سنحصل علي الأموال، مادمنا لن نبيع الأرض أولاً؟!«. الرد علي رد الوزير ليس صعباً علي عقلية اقتصادية بارعة مثل عقلية الدكتور حاتم الجبلي. فإذا لم يوفر له وزير المالية د. يوسف بطرس غالي الأموال المطلوبة، يمكنه اقتراضها من البنوك بفائدة متهاودة، أو تلقي دفعات بقيمتها بدون فوائد لأن الربا حرام من المستثمرين، بضمان أرض العباسية التي سيطرحها للبيع بعد تنفيذ المستشفي البديل، بسعر أكثر بكثير من سعرها اليوم. إبراهيم سعده [email protected]