البطاطس ب20 جنيها.. أسعار الخضراوات والفواكه في أسواق كفر الشيخ اليوم    قبل ساعات من مناظرتهما .. ترامب يطلق وصفا خطيرا على بايدن    المصرى يتقدم على الإسماعيلى 1-0 فى الشوط الأول.. فيديو    طب عين شمس تصدر بيانا حول حريق بإدارة الدراسات العليا    رشقات صاروخية من جنوب لبنان باتجاه صفد وعدد من مناطق الجليل الأعلى    أفضل دعاء السنة الهجرية الجديدة 1446 مكتوب    عبدالمنعم سعيد: مصر لديها خبرة كبيرة في التفاوض السياسي    يورو 2024.. توريس ينافس ديباى على أفضل هدف بالجولة الثالثة من المجموعات    الأعلى للجامعات يعلن قواعد تنسيق الجامعات لطلاب الثانوية العامة.. تعرف عليها    انطلاق مباراة الإسماعيلي والمصري في الدوري    أيمن غنيم: سيناء شهدت ملحمتي التطهير والتطوير في عهد الرئيس السيسي    محافظ شمال سيناء: 30 يونيو انتفاضة شعب ضد فئة ضالة اختطفت الوطن    كريم عبد العزيز يعلن موعد عرض الجزء الثالث لفيلم "الفيل الأزرق"    يسرا عن مسرحية ملك والشاطر: دي ممكن تبقى آخر مسرحية في حياتي    لطيفة تطرح ثالث كليباتها «بتقول جرحتك».. «مفيش ممنوع» يتصدر التريند    منظمة حقوقية: استخدام الاحتلال الكلاب للاعتداء على الفلسطينيين أمر ممنهج    تخريج دورات جديدة من دارسي الأكاديمية العسكرية    «الرعاية الصحية» تعلن حصاد إنجازاتها بعد مرور 5 أعوام من انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل    مستشار الأمن القومى لنائبة الرئيس الأمريكى يؤكد أهمية وقف إطلاق النار فى غزة    «رحلة التميز النسائى»    محافظ أسوان يلتقي رئيس هيئة تنمية الصعيد.. تفاصيل    لهذا السبب.. محمد رمضان يسافر المغرب    الشاعر محمد البوغة: «لو زعلان» لون غنائي جديد على ماجد المهندس ولم يخشى التغيير    أيمن الجميل: تطوير الصناعات الزراعية المتكاملة يشهد نموا متصاعدا خلال السنوات الأخيرة ويحقق طفرة فى الصادرات المصرية    أسعار التكييفات في مصر 2024 تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    مع ارتفاع درجات الحرارة.. «الصحة» تكشف أعراض الإجهاد الحراري    تحرك جديد من بديل معلول في الأهلي بسبب كولر    بائع يطعن صديقة بالغربية بسبب خلافات على بيع الملابس    وزيرة التخطيط: حوكمة القطاع الطبي في مصر أداة لرفع كفاءة المنظومة الصحية    لتكرار تجربة أبوعلى.. اتجاه في الأهلي للبحث عن المواهب الفلسطينية    اندلاع حريق هائل يلتهم محصول 100 فدان كتان بقرية شبرا ملس بزفتى.. صور    بالصور.. محافظ القليوبية يجرى جولة تفقدية في بنها    جهاز تنمية المشروعات يضخ تمويلات بقيمة 51.2 مليار جنيه خلال 10 سنوات    شيخ الأزهر يستقبل السفير التركي لبحث زيادة عدد الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر    شوبير يكشف شكل الدوري الجديد بعد أزمة الزمالك    مواجهات عربية وصدام سعودى.. الاتحاد الآسيوى يكشف عن قرعة التصفيات المؤهلة لمونديال 2026    حمى النيل تتفشى في إسرائيل.. 48 إصابة في نصف يوم    انفراجة في أزمة صافيناز كاظم مع الأهرام، نقيب الصحفيين يتدخل ورئيس مجلس الإدارة يعد بالحل    محافظ المنيا: تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الأسمدة الزراعية لضمان وصولها لمستحقيها    "قوة الأوطان".. "الأوقاف" تعلن نص خطبة الجمعة المقبلة    هل استخدام الليزر في الجراحة من الكيِّ المنهي عنه في السنة؟    تحرير 107 محاضر خلال حملات تموينية وتفتيشية بمراكز المنيا    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الإقليمي بالمنوفية    تفاصيل إطلاق "حياة كريمة" أكبر حملة لترشيد الطاقة ودعم البيئة    أمين الفتوى: المبالغة في المهور تصعيب للحلال وتسهيل للحرام    تفاصيل إصابة الإعلامي محمد شبانة على الهواء ونقله فورا للمستشفى    21 مليون جنيه حجم الإتجار فى العملة خلال 24 ساعة    بكين تعارض إدراج الاتحاد الأوروبى شركات صينية فى قائمة عقوباته    بولندا تهنئ مارك روته على تعيينه في منصب السكرتير العام الجديد للناتو    الصحة تحذركم: التدخين الإلكترونى يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    طلب غريب من رضا عبد العال لمجلس إدارة الزمالك    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 27 يونيو.. «يوم مثالي لأهداف جديدة»    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    10 يوليو موعد نهاية الحق فى كوبون «إى فاينانس» للاستثمارات المالية    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
من القاهرة القديمة
نشر في الأخبار يوم 20 - 05 - 2014

بالاشتراك مع مكتبة القاهرة الكبري تتبني جريدتنا الأخبار حملة لإنقاذ القاهرة القديمة، وهذا ما دفعني إلي تقديم لحضورها ومعناها في الزمان والمكان..
أبدأ من ميدان القلعة مع مرور الزمن أصبحت القلعة مركزا للحكم خاصة في العصر المملوكي الثاني، اتسعت وأصبحت تشبه مدينة صغيرة مستقلة، وعندما كانت تنشب الصراعات بين السلطان وخصومه، كانت النقطة الحاسمة الفاصلة هي الاستيلاء والسيطرة علي القلعة، ومن أهم الاماكن فيها قصر السلطان نفسه، والاسطبل.. حيث الخيول التي توازي سلاح المدرعات الآن، والحواصل السلطانية أي مخازن المؤن.
بمجرد الاستيلاء علي القلعة ينتهي الصراع، فكأن المكان رمز حاد للسلطة يحتوي بلغة عصرنا علي الاذاعة حيث يبث البيان الاول في دول العالم الثالث، ومعسكرات الجيش، وجميع الهيئات الادارية، فأي رمز لمركزية السلطة أبلغ من هذا؟
في مواجهة القلعة تقوم عمارة أخري من أعظم العمائر في العالم الاسلامي إنه مسجد السلطان حسن، كتلة معمارية هائلة، كانت تبدو كيانا ضخما للقادم من بعيد قبل أن تقترب منها المباني وتنال من الفراغ المحيط بها إن روعة العمارة. وثقل الزمن القديم المتوارث هنا، جعل لميدان القلعة خصوصية فريدة،كان في الزمن المملوكي يسمي ميدان الرميلة، وفي العثماني قرة ميدان أي الميدان الأسود، وذلك لوجود سجن شهير علي مقربة منه، ثم أصبح اسمه ميدان صلاح الدين نسبة إلي مشيد القلعة، غير أنني أفضل تسميته ميدان القلعة، وما من مرة أمضي إليه، وأقف بين مدرسة السلطان حسن السامقة، ومسجد الرفاعي الذي انشئ في القرن الماضي وحاول مهندسه العثماني محاكاة بناء المدرسة العظيم، ما من مرة أقف فيها هنا إلا وأشعر أنني انتقلت إلي عدة عصور منقضية، وليس عصرا واحدا فقط، في المواجهة تقوم القلعة فوق ربوة مرتفعة، وإلي جانب الميدان الايسر مسجد أمير أخور القادم إلينا من الزمن المملوكي، ومسجد المحمودية من الزمن العثماني، والرفاعي من القرن الماضي، أما الميدان نفسه فلك يوحي، أتذكر وصف ابن إياس له في حقبة السلطان الغوري عندما غرس فيه الاشجار. وأتي إليه بالنباتات النادرة، وأطلق فيه الغزلان والنادر من الطيور، وهذا البهلوان الاجنبي الذي جاء ومد حبلا بين مئذنة السلطان حسن والقلعة، ثم مشي فوقه،وكان الامر فرجة لاهالي المدينة، هنا كانت تبدأ المواكب السلطانية التي حفظت لنا كتب التاريخ أوصافا رائعة لها، وحتي بدايات هذا القرن كان موكب المحمل يبدأ من ميدان القلعة، كذلك موكب رؤية هلال شهر رمضان هنا ايضا كانت تنتهي مواكب السلطان، بعد أن يشق مدينة القاهرة بدءا من عبوره بوابة الفتوح، ثم شارع قصبة القاهرة، ثم شارع الصليبة، حتي ميدان القلعة، وهذه المسميات يمكن اعتبارها اسما لشارع واحد، مازال متصلا حتي يومنا هذا، ولكنه يقاوم البلي وآثار الهدم التي لا تحفل بذاكرة التاريخ، ولا تحتفي بما خلفه لنا الماضي من كنوز وآثار، انما تعتبرها عبئا ثقيلا فتحاول الخلاص منه، تلبية لمتطلبات قصيرة المدي، أو بدعوي فهم خاطئ للتحديث.
السفراء
أعود إلي وقفتي بميدان القلعة، إلي هنا كان يجيئ السفراء الاجانب قبل صعودهم إلي مقابلة السلطان، كانت التقاليد تقضي أن يدخلوا المدينة من بوابة الفتوح، وقبل عبورهم يقبلون الارض ثلاث مرات، ومازالت بوابة الفتوح قائمة إلي جانب اثنتين اخريين في حالة جيدة تماما، بوابة النصر، وبوابة زويلة التي استغلها المهندس الذي شيد مسجد المؤيد شيخ الحموي فوضع مئذنتيه فوقها مما اكسبها شكلا جماليا فريدا متميزا،وهذه البوابة هي شعار القاهرة الآن، توجد بوابة اخري كشفت عنها الحفائر الحديثة ولكنها ليست في حالة جيدة، متكاملة مثل الاخريات، انها بوابة البرقية، وهذه البوابات الاربع المتبقية من أصل سبع كانت تتخلل السور المجري العظيم الذي بناه أمير الجيوش بدر الدين الجمالي الارمني الاصل قرب نهاية الدولة الفاطمية، ومازالت اجزاء كاملة من السور باقية إلي يومنا هذا كنموذج فريد علي العمارة الحربية الإسلامية القديمة.
هنا في ميدان القلعة كانت تبدأ الاستعراضات العظمي، والاضطرابات العظمي ايضا عند وقوع الفتن، واندلاع المنازعات، يلبس المماليك «حربي» ويركبون خيولهم المطهمة، ويشهرون أسلحتهم، عندئذ تنسحب المدينة إلي داخل ذاتها يغلق الناس أبوابهم، وحوانيتهم، وتخلو الشوارع من المارة،ويسود الترقب والحذر انتظارا لحسم الصراع، هكذا كان موقف الشعب من فتن المماليك،وصراعاتهم، واضطراباتهم، ولكن هذا الموقف السلبي لم يكن في كل الحالات، فكثيرا ما كان يتدخل الناس لحسم الصراع، أو للتعبير عن رأيهم، كما حدث عندما خرجوا يتظاهرون هنا في ميدان القلعة مطالبين بعودة السلطان الناصر محمد بن قلاوون بعد عزله في المرة الاولي والمرةالثانية وايضاخلال فتنة الأمير منطاش في بداية حقبة المماليك الجراكسة لكم ضج هذا الميدان العتيق بالحياة، والحركة، ولكم تقررت فيه مصائر. كما انه لا يخلو من دلالات مستمرة حتي الآن.. في تقديري أن بناء مسجد السلطان حسن الهائل، القائم في مواجهة القلعة مقر السلطان يعبر عن مواجهة بين السلطة المدنية «القلعة» والسلطة الدينية، ان شموخ البناءوقوته وجدرانه العالية الصارمة، ليبدو وكأنه ليتحدي القلعة الواقفة إزاءه، وبسبب موقع المسجد - المدرسة وبرغم كونه رمزا للسلطة الدينية الا انه استخدم في الصراعات السياسية بسبب موقعه، فعند حدوث قلاقل في القاهرة، كان هدف الثوار الاول تحويل هذا المسجد إلي معقل لهم، فالمنظر الخارجي يشبه حصنا هائلا مكعب الشكل، يزيد من مظهر ارتفاعه فجوات عمودية بها نوافذ ضيقة، وحافة بارزة تمتد في أعلي الجدران، إن مسجد مدرسة السلطان حسن يعد ذروة العمارةالمملوكية، استغرق بناؤه سبع سنوات «757ه - 763 ه » وبذل في سبيل اتمامه جهدفائق، وأموال ضخمة، قال السلطان نفسه، «لولا أن يقال: ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه».
إن الوقفة في ميدان القلعة، وخاصة أمام مسجد السلطان حسن، مدخل مناسب للحديث عن خصوصية العمارة الاسلامية المصرية.
خصوصية فريدة
كأنه اليسر بعد العسر
كأنه الفرج بعد الضيق والشدة..
كأنه الخروج من محدودية الرحم إلي رحابة الحياة..
هكذا يبدو الممر غير المستقيم، المنعطف فجأة بدون سابقة تنبيه، والذي يلي مباشرة المدخل الساحق، شاهق الارتفاع، المحفوف بالزخارف، والمقرنصات الحجرية، فكأن المدخل الهائل حد فاصل بين الحياة خارج المسجد، والحياة داخله، وكأنه اجتياز لبوابة تفصل بين عالمين مختلفين، عالم المادة وعالم الروح، لكنك لا تلج العالم الثاني فجأة، بغتة، إنما بالتدريج، وعلي مهل، وهذا الممر الضيق يتولي ذلك، هذا الممر تجده في معظم المساجد الضخمة التي شيدت في الزمن المملوكي، عصر إزدهار العمارة المصرية ونضجها، وبلوغها الشخصية المتكاملة في العصر الوسيطة سوف تمر به في مدرسة السلطان حسن، في مدرسة السلطان برقوق في الطريق المؤدي إلي مسجد المنصور قلاوون وقبة الدفن الملحقة به، في مسجد السلطان قايتباي، في معظم المساجد الهائلة، لن تلج إلي داخل البناء مباشرة، انما لابد من هذا الممر ذي الانعطافات الذي يهيئ الروح للاستقرار هناك، وفي نفس الوقت ينأي بالعالم الخارجي شيئا فشيئا، فتبعد أصوات الطريق، وضجيج الحياة اليومية، وحمولها وهمومها، لقد اعتدت الخلوة بضع ساعات في مدرسة السلطان حسن وفي مسجد المؤيد شيخ الحموي، وقد مررت بهذه التجربة، فبعد اجتيازي هذا الممر الملتوي أشعر وكأنني نأيت، حتي اذا جلست في الصحن المكشوف أو المغطي تبدو أصوات الطريق كظلال باهتة من عالم آخر، بعيد، حتي اذا اقتربت من النوافذ المطلة مباشرة علي الطريق أو الميدان، تبقي تلك المسافة الفاصلة بيني وبين ضجيج الحياة اليومية، وعند الاقتراب من نهاية هذا الممر الذي يقوم بعملية الانتقال، لا يلوح داخل المسجد مباشرة لا يسفر الصحن عن نفسه مرة واحدة، بل تري جزءا من الايوان الشرقي حيث محراب الصلاة وقبة الدفن، وعندما تعبر الباب المنحني الضيق، فكأنك ولدت ولادة جديدة، وأنا هنا أتمثل معمار مدرسة السلطان حسن باعتباره نموذجا مثاليا لمساجد ومدارس القاهرة.
تعبر إلي الصحن الداخلي، أربعة أيوانات ضخمة، لكل مذهب من المذاهب الاربعة إيوان خلفه حجرات الدراسة وأماكن إقامة الطلبة، ان ارتفاع الايوانات الشاهقة والتي تنتهي باقواس حجرية ضخمة محمولة علي الفراغ. لتدعو إلي التفكير في عبقرية هذا المهندس الذي ظل مجهولا سنوات طويلة حتي عثروا علي اسمه منذ فترة قريبة، محفوراً، متواريا في ركن قصي من هذا البناء الهائل، يذكر ستانلي لينبول في كتابة (سيرة القاهرة) ان السلطان حسن بلغ من شغفه بهذا البناء الرائع، ان أمر بقطع يد المهندس الذي قام بتشييده، ظنا منه أن هذا سوف يحد من عبقريته ولا يتيح له فرصة اعادة بناء مثل هذا المسجد الفريد، ولكنني لم اعثر في مصادر الفترة التاريخية علي تأكيد لهذه الواقعة، واظن ان ستانلي لين بول متأثر بالرواية العربية القديمة عن سنمار الذي صار جزاؤه مثلا.
علي أية حال، فإن ضخامة العمارة المصرية لا تؤدي إلي شعور الانسان بالتضاؤل. ان المرء لا يشعر بالانسحاق امام المدخل الشاهق للسلطان حسن، او عند وقوفه تحت قبة قلاوون الهائلة، بالعكس، إنه يشعر بنوع من السمو، ان العمارة تقف عند حد التجريد في خطوطها العامة، برغم الحشوات او المقرنصات او الزخارف المنتشرة هنا أو هناك تنتهي الجدران الشاهقة بالعرائس الحجرية شبه المثلثة، متساوية، متجاورة فكأنها اشارة الي صفوف المصلين، المتساويين امام الخالق كأسنان المشط، ولكن اذا دققنا النظر، سوف نجد ان الفراغ الفاصل بين هذه العرائس الحجرية قد اتخذ نفس الهيئة التي حفر عليها الحجر، فكأنه الاصل والصورة، كأنه الصوت والصدي، كأنه المادة الملموسة والروح التي نستشعر وجودها، لكننا لا نراها.
ان ضخامة المادة هنا مصاغة بطريقة لا تؤدي الي ترسيخها، اما تنفيها، تمحو الشعور بها، وكثيراً ما استعيد صيحة الصديق الشاعر الكبير ادونيس عندما دخل صحن مدرسة السلطان حسن، وقال:
«إنها قصائد الحجر»
موروث معماري طويل يستند الي تقاليد عتيقة تضرب بجذورها حتي الزمن الفرعوني بل إن بعض الرموز القديمة نجدها صراحة، مثل هذا القارب فرعوني الشكل الذي يعلو جوسق قبة الامام الشافعي، والذي يشبه القوارب الفرعونية المرسومة علي جدران المعابد، وكذلك هذا القارب المحفوظ في مسجد سيدي ابي الحجاج الاقصري المقام في قلب معبد رمسيس بالأقصر، والذي يخرجه المريدون في كل عام ليطوفوا به عند الاحتفال بمولد سيدي ابو الحجاج ان الشكل الفرعوني القديم اكسب العمارة الاسلامية في مصر خصوصية بلا شك، حيث تختلف عن العمارة الاسلامية في الاندلس التي تغطي بالزخارف والمنمنمات التي تذيب المادة تماماً عن طريق التجزئ إلي مالا نهاية، او العمارة الاسلامية في بلاد فارس التي تقوم علي اساس عنصر الابهار بالزخارف الملونة وتغطية الاسطح بالخزف الملون، ولكن هذا التراث الفرعوني لم يقتصر فقط علي الشكل، انما امتد ايضاً إلي المضمون، فهذه المساجد العظيمة التي تقوم في القاهرةالقديمة وتحفظ أركانها وتصون افقها إنما هي في حقيقة الأمر عبارة عن مقابر عظيمة ايضاً، وعندما نطالع تاريخ سلاطين المماليك العظام فسوف يلفت نظرنا ان السطور الاولي التي يوردها المؤرخ ويسجل فيها اول ما قام به السلطان من اعمال، انه شرع في بناء مسجد، وهذا المسجد يضم مقبرة له، وقد يسلك في سبيل اتمام بناء المسجد اشد الطرق عسفا، مثلما فعل السلطان مؤيد شيخ الحموي الذي سخر العمال وانتزع املاك الناس ليضمها الي مساحة مسجده، ثم قام بنقل بوابة مسجد السلطان حسن ليضعها علي مسجده، وما تزال باقية حتي الان، اما السلطان الغوري فقد اشتط في الاستيلاء علي أموال الناس، وفك الواح الرخام من البيوت ليضعها في مسجده، وقبته العظيمة التي بناها ليدفن فيها ولكنه قتل في مرج دابق ولم يعثر له علي جثة، تماماً كالسلطان حسن الذي لم يدفن في مدرسته الهائلة، العظيمة، ويسجل ابن اياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور تفاصيل ما قام به السلطان الغوري في سلب اموال الناس لبناء مسجده، حتي تندر المصريون فسموه «المسجد الحرام».
كان ما يحرك هؤلاء السلاطين والحكام ذلك المضمون المصري القديم المعني بالخلود، بالبقاء بعد الموت، بعد الفناء، وهذا المضمون ينعكس في علاقة المصريين بالموت، لم يكن الامر مقصورا علي سلاطين المماليك فقط، ولكن في العصر الحديث أيضاً دفن سعد زغلول في مقبرة مهيبة كانت مخصصة لدفن الموميات الفرعونية، وبعد وفاة الزعيم جمال عبد الناصر اتضح أنه كان مساهماً في جمعية تتولي الاشراف علي بناء مسجد ضخم في كوبري القبة، وفيه يرقد الآن، اما انور السادات فكان يخطط لبناء مقبرة ضخمة في قرية ميت ابو الكوم، وقيل في شارع رمسيس ايضاً، ولكن القدر لم يمهله، غير أن علاقة الشعب بحكامه الذين سعوا الي الخلود بهذه العمائرالضخمة معقدة للغاية، وربما كان مسجد الرفاعي هائل المعمار القائم في مواجهة القلعة ابلغ مثال علي ذلك، لقد شيد هذا المسجد بواسطة الاميرة خوشيار هانم والدة خديوي مصر، وانفقت عليه اموالاً جمة حتي يجئ محاكياً ومواجها لمدرسة السلطان حسن وفي المسجد دفن الخديو اسماعيل، والخديو توفيق، والملك فاروق، وعدد آخر من ملوك اسرة محمد علي، كما دفن فيه مؤخراً شاه إيران، ومع ذلك فأنك لن تلقي فرداً واحداً من الشعب يمضي ليشعل شمعة فوق اضرحتهم، أو يتصدق علي أرواحهم، أو يتوقف حتي ليقرأ الفاتحة، ابداً.. انما يقف الجميع عند قبر رجل فقير يقع في مدخل المسجد وبعد اجتياز المدخل الشاهق الارتفاع، انه سيدي احمد الرفاعي، الذي ينسب المسجد كله اليه، وهو ليس الرفاعي المتصوف المشهور وشيخ الطريقة المعروفة، فهذا الأخير ضريحه في بغداد، ولكنه مجرد رجل درويش فقير، كان بلا مأوي، اتخذ له مكاناً بالقرب من المسجد الهائل الذي بنته الأميرة خوشيار هانم، واعتقد فيه الناس، وقصدوه للتبرك به، وعندما مات دفن في المسجد الكبير وربما وافق اصحابه بقصد البركة ايضاً، ولكن شيئاً فشيئاً اصبح ضريح الرجل الفقير هو المركز، وهو الذي يقف امامه الناس لقراءة الفاتحة، وهو الذي يحتفلون بمولده. ونسب المسجد كله اليه، فكأن مسعي خوشيار هانم ذهب ادراج الرياح، وكأنها لم تبن المسجد الا ليكون تابعاً لهذا الفقير المجهول، وقس علي ذلك كل الأضرحة الفخمة والعمائر الضخمة التي بناها الحكام لأنفسهم في القاهرة، لن تجد الشعب يحتفل بمولد الامير قوصون، او الامير شيخون العمري، أو سعيد السعداء، ولا حتي الظاهر بيبرس الذي حولته المخيلة الشعبية الي بطل ملحمي، ولكنك ستجد الموالد تقام والاحتفالات تنصب، والسعي يتم في اتجاه نفر من الفقراء، الصالحين، الذين ارتبط الناس بهم، وخلدوا ذكرهم، ولكم كان التأثر ينال مني وانا أعبر أحدي حواري الجمالية في ليل غميق، عندما أري شمعات صغارا يهتز لهيب ذبالاتها الواهنة فوق ضريح بسيط يعلوه غطاء أخضر.. انه الضمير الجماعي الحي، المتصل،والذاكرة الشعبية التي تعرف وتميز ولا تنسي.
إذا نزلت القاهرة، وتجاوزت بوابات مطارها، فان اول طريق تسلكه هو طريق صلاح سالم السريع، بعد العباسية آخر حدود العمار حتي منتصف هذا القرن (باستثناء ضاحية مصر الجديدة النائية التي انشئت في بداية القرن 1907)، وحتي مصر القديمة، فإن الطريق يمر في قلب مدينة الموتي، ستبدو مآذن رشيقة، وعمائر فخمة مشيدة علي الطراز الاسلامي وشواهد رخامية متواضعة، ولكن اذا دققت النظر سوف تلاحظ ان هذه القبور تقف الي جوار بعضها في نظام صارم، الشوارع مستقيمة، النظافة متوفرة، الهدوء طبعاً غير عادي، دقة في واجهات المباني لا تتوفر في المناطق العامرة بالاحياء، بعض العمائر الحجرية الضخمة تحمل اسم منشئيها الذين حرصوا علي اضافة القابهم (المرحوم فلان.. باشا) (اللواء المرحم.....) (انشأ هذا المدفن المرحوم.... عضو مجلس النواب)... الخ، القرافة او جبانات القاهرة تاريخ طويل، وقد افرد المقريزي في كتابه الخطط قسما كبيراً للحديث عن المدافن المحيطة بالقاهرة، وهناك كتب خاصة عن القرافة واما كن الزيارات منها كتاب تحفة الاحباب وبُغْية الطلاب للمؤرخ السخاوي، وقد طبع في مصر 1937 ويذكر ترتيب المقابر، ويترجم للموتي الذين يرقدون فيها.
بين العالمين
امتدادا الاهتماما المصريين القدماء بفكرة الخلود، وامتداد الحياة بعد الموت. سعوا الي قهر العدم بالمادة، بالمباني الضخمة، الهائلة التي تصمد في وجه الزمن.. الي حين مقدر، وابرزها الاهرامات، هذا المضمون الفلسفي والديني القديم أثر علي تركيب المدينة المصرية، فمدينة الاحياء تقابلها مدينة الاموات، والقبر نفسه ينقسم إلي قسمين، الاول يعرض مظاهر الحياة، والثاني مكان دفن الجثمان محاطا بكل ما كان يستخدمه في حياته، كانت المدينة المصرية الفرعونية تتكون من ثلاثة محاور. مدينة الاحياء، ثم مقر الحاكم يليه مدينة الموتي، والغريب ان هذا التقسيم نجده ايضاً في القاهرة الاسلامية فمدن الاحياء قائمة بالقرب من النيل، سواء الفسطاط أو القطائع أو العسكر.. أو القاهرة، ثم يقوم قصر الحاكم، او مقر الحكم، القلعة مثلاً، وإلي الشرق يبدأ امتداد الجبانات، فكأن القلعة - مقر السلطان - مكان وسط بين عالمين، عالم الأحياء، وعالم الموتي.
بعد دخول الاسلام الي مصر ظلت المقابر المصرية تحتفظ في تكوينها العام بالجمع بين العالمين، الدنيوي والأخروي، ولكن ظروف البناء اصبحت افقر معمارياً، وتغير شكل المقبرة نفسه بحيث اقتربت من هيئة المنزل، ويوجد في القاهرة حوالي عشرين منطقة للدفن، كلها تقوم في الجانب الشرقي من المدينة، وكما تنقسم مدينة الاحياء إلي مناطق ثرية وفقيرة فان هذا ينعكس ايضاً علي مدينة الموتي، اذ توجد مقابر الشواهد والاحواش، حيث يدفن الميت تحت الأرض ولا يظهر منه الا شاهده، اما مقابر الاحواش فتتكون من حجرتين تحت الارض، واحدة للرجال، والاخري للحريم، وفوق الارض ينقسم البناء إلي قسمين، الامامي ونجد فيه حجرتين ايضاً ومطبخا ودورة مياه، اما منطقة المدفن فتكون غير مسقوفة في الغالب. ويبدو هنا أثر تقسيم المنزل الريفي الذي يتكون من قسم امامي مفتوح وخلفي غير مسقوف، وهنا نجد احواشا خاصة بعائلة او فرد، واحواشا جماعية شيدت بواسطة ابناء بلدة واحدة، لتكون بمثابة مدفن جماعي وهناك مقابر خاصة جداً، مثل مقابر الخلفاء العباسيين، ومقابر امراء المماليك، وتنفرد المباني هنا بالعمارة الجميلة، والزخارف الدقيقة، وهناك مقابر للمسيحيين مسورة وتقع في منطقة معينة، ومقابر لليهود، وتنقسم مقابر المسيحيين الي مدافن للمذاهب المختلفة، الكاثوليك، الارثوذكس.. الخ، وفي القاهرة مقبرة واحدة للاجانب من ضحايا الحرب العالمية الثانية، توجد مقابر جماعية يطلق عليها مقابر الصدقة، وتلك مخصصة للفقراء والذين لا مأوي لهم في الحياة الأخري وفي الاعم لم يكن لهم مأوي في الحياة الدنيا، الا ان الميت مهما كان فقيراً فلن يعدم وسيلة للانتقال الي مثواه الأخير، فالمساعدةعلي الدفن عمل يأتي بخير كثير، وكما يقال «اكرام الميت دفنه»، كانت مدينة الموتي مقصورة علي سكني الموت فقط، واحياء قلائل يتولون خدمة المقابر الضخمة، او تسهيل عمليات الدفن (التربية)، ولكن حدث في هذا القرن تطور آخر، اذ بدأ زحف الاحياء لسكني مدينة الموت، وبدأت ظاهرة تعايش الحياة والموت جنبا الي جنب تتخذ بعدا أكثر تجسيدا، وساعد علي استقرار الاحياء في مدينة الاموات عدة عوامل، طبعاً منها تفاقم ازمة الاسكان في مدينة الاحياء، الا ان هناك عوامل موضوعية وعمرانية ساعدت علي جذب السكان الي المقابر، منها التخطيط المتكامل الذي يميز مدينة الموتي، امتدادها الافقي الكبير، اتساع الشوارع، اتساع المباني العلوية في الأحواش، وارتقاء المستوي الجمالي لبعضها الي درجة انها تعد تحفا معمارية فريدة، وشيئاً فشيئاً امتدت الكهرباء والمياه، والمجاري في بعض المواضع، وافتتحت المدارس، وأصبحت المقابر مقراً لسكني الاحياء، ولتشكل هذه الظاهرة بعداً فريداً في تكوين المدينة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.