بقدر ما نجح المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في إدارة الحوار بينهما إلي أن وصلا إلي توقيع اتفاق السلام الشامل في التاسع من يناير عام 2005م في العاصمة الكينية نيروبي، فشلا فشلاً ذريعاً في إدارة الشراكة. فلقد ظلت السمة الغالبة علي علاقتهما هي التوتر ومعاكسة بعضهما بعضاً، ولقد قاد هذا السلوك غير السوي الشراكة إلي الوقوع في مطبات عديدة أوشكت أن تهدم صرح السلام لولا فضل الله تعالي ورأفته بالسودان وأهله. ولقد كان لبعض الحكماء من الحزبين دور كبير في إخماد كثير من النيران التي ظلت تشتعل حيناً بعد حين، وكان أكثر قادة الحزبين امتصاصاً للتوترات الرئيس عمر البشير ونائبه علي عثمان في المؤتمر الوطني، ورئيس الحركة الشعبية الفريق سلفاكير ميارديت ونائبه الدكتور رياك مشار. وبرغم أن الشريكين أفلحا بعد جهد كبير أن يصلا بالشراكة إلي شوطها الأخير المتمثل في إجراء استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، إلا أنهما وصلا إليه بغير المرغوب فيه، إذ أن حق تقرير المصير الذي كان يرجو السودانيين أن يؤكد وحدة بلدهم طوعاً، أصبح بصورة شبه قاطعة قائداً إلي انفصال هذا البلد. وحتي هذا الانفصال الذي صار مقبولاً باعتباره خياراً لا خيار غيره، لم يقف الأمر عنده، وإنما صار السلوك غير المنطقي لكثيرين من منسوبي الشراكة في الحزبين يهدد بما هو أسوأ من الانفصال. والأسوأ من الانفصال هو أن نفقد السلام أيضاً. وهذا الخيار الأسوأ لم يعد مستبعداً بعد المشاكسات والمكايدات التي أصبحت تتجدد كل يوم، وتتعالي أصوات الخلاف والاختلاف كل ساعة، وظل البعض يفتعل المعارك في غير معترك. ومثل هذا السلوك ما كان له أن يكون لو أن الحزبين الشريكين استصحبا معهما روح الاتفاقية وتوجيهاتها، والأهم من ذلك مصالح الوطن، ومصالح حزبيهما. فإن الكسب العظيم الذي تحقق بتوقيع اتفاقية السلام يضيع كله لو لم تبلغ هذه الاتفاقية غاياتها المنشودة. والغاية الأولي لاتفاقية السلام هي أن يقود هذا الاتفاق إلي تعزيز وحدة السودان، أما أدني الغايات هي أن ينفصل الجنوب عن الشمال، ويحتفظ البلدان الناشئان بعلاقات طيبة تحفظ حالة السلام التي تحققت بالاتفاق. ويبدو أن الرحيل المفاجئ لزعيم الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق دي مبيور في الشهر الأول لعودته للسودان، قد أربك حسابات الشريكين معاً. فبالنسبة للحركة الشعبية فإن الأوراق كلها كانت بيد الرجل القائد، وكان الفقيد جون قرنق يقاتل من أجل الوحدة، ولقد ضحي مجموعات وأفراد فاعلين في مراحل مختلفة من تاريخ الحركة بسبب توجهاتهم الانفصالية، والذين حاولوا الخروج علي هذا الخط الوحدوي، لم يجدوا خياراً سوي العودة للحركة الأم، علي الأقل لأنهم لم يجدوا من يشتري بضاعتهم في ذاك الوقت.. أما بالنسبة للمؤتمر الوطني فإنه افتقد جون قرنق الذي كان يجيد فن التفاوض ويعرف متي يشد علي الحبل ومتي يرخيه، ثم أن الدكتور جون قرنق كان يمسك بكل الخيوط في الحركة الشعبية، فإذا قال بشيء، فالقول ما قال به الزعيم. ولعل المشكلة الأخيرة التي ظهرت في مسألة الدورة المدرسية التي اكتملت كل الترتيبات لإجرائها في ولايات بحر الغزال الكبري في جنوب البلاد، وتم كل ذلك بعلم ومشاركة الحركة الشعبية علي أرفع مستوياتها تبين حجم الخلاف وشكله بين الشريكين. فبعد اكتمال كل هذه الترتيبات ووصول الطلاب المشاركين من كل أنحاء السودان، قامت الحركة الشعبية بإلغاء هذه الدورة، وتم الإلغاء دون الرجوع إلي الشريك، بل حتي دون إخطار الجهة المنظمة، ولا اللجنة العليا التي تضم مسئولين من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ولقد أعلن قرار الإلغاء الأمين العام للحركة الشعبية السيد باقان أموم، وهو ليس صاحب اختصاص في هذا المجال. وما تم في مسألة الدورة المدرسية يوضح التباعد الكبير بين الشريكين. فالمؤتمر الوطني وعبر مشاركة الولايات الشمالية وظف الدورة كلها لدعم خيار الوحدة ابتداء من شعارها (سوا سوا) وحتي كل أناشيدها وأغنياتها ورقصاتها وبرامجها، ولعل الحركة الشعبية وجدت في ذلك هزيمة لمشروعها الانفصالي الذي فرضته، ولم يبق بينها وبين إعلان دولتها شيء سوي أن يحين وقته في التاسع من يناير عام 2011م، أو بعده بيوم أو يومين، إلي حين ظهور نتائج استفتاء تقرير المصير، ولعل هذا هو السبب وراء الإعلان المفاجئ للدورة من قبل الحركة الشعبية. ولم يعد بعد ذلك خيار أمام الشريكين غير أن يقتنعا بهذا الواقع، ويتعاونا من أجل عبور الأيام القليلة القادمة بسلام حتي لا نفقد كل شيء.