فقد عالمنا واحدا من الرموز الإنسانية بالغة القيمة والرقي والثراء، بوفاة المناضل الأفريقي الكبير نيلسون مانديلا، الذي ودع الحياة الخميس الماضي عن عمر يناهز الخمسة والتسعون عاما، بعد رحلة كفاح طويلة ضد القهر الإنساني والتمييز العنصري، دفع ثمنها غاليا من حريته، حيث قضي في سجون نظام »الأبرتيد«، بجنوب افريقيا سبعة وعشرون عاما متواصلة. وطوال سنوات سجنه ظل مانديلا متمسكا بمبادئه في مناهضة العنصرية، مدافعا عن حق أبناء وطنه في الحياة الحرة الكريمة في وطنهم، وحقهم أيضا في أن يكونوا هم حكام أنفسهم في ظل دولة ديمقراطية تقوم علي العدالة والحرية والمساواة، وعدم التمييز بين البشر علي أساس اللون أو العرق أو الجنس أو الفكر أو العقيدة. وخلال سجنه الطويل الذي بدأ عام 1964 واستمر حتي بداية التسعينيات من القرن الماضي، تحول مانديلا إلي رمز من رموز النضال والكفاح ضد الاستعمار الأبيض للقارة الافريقية السمراء، وضد قهر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان في أي مكان ونجح بإصراره وصبره وصلابته وإيمانه بقضية وطنه، أن يحرك ضمير العالم كله ضد التفرقة العنصرية، ليضع نهاية لها وتتخلص جنوب افريقيا منها. ورغم قسوة المعاناة والظلم الذي تعرض له نيلسون مانديلا ومواطنوه من نظام »الابرتيد« التفرقة العنصرية البغيض الذي مارسه البيض ضدهم، إلا أنه امن بنبذ العنف والمقاومة السلمية وسيلة للخلاص من تسلط وسيطرة الحكم العنصري وتخليص البلاد منه. وتكمن القيمة الإنسانية الكبيرة لمانديلا في قدرته الهائلة علي التسامح، وإصراره الشديد علي اختيار المصالحة الوطنية الشاملة بين السود والبيض، طريقا مأمونا لبناء دولة متحدة واحدة بلا تمييز عنصري، تقوم علي الحرية والمساواة والعدل، وليس العنف والكراهية والانتقام. واستطاع المناضل الكبير الذي تولي رئاسة بلاده كأول رئيس جمهورية أسود لها في عام 1994، مقاومة جميع الضغوط الشعبية والإنسانية التي حاولت دفعه للانتقام ممن مارسوا الظلم والاستبداد بشعبه وسجنوه، وغيره من المناضلين الرافضين للظلم، وأصر علي أن يكون التسامح والمصالحة والعدل هي الوسيلة والطريق لقيام دولة جنوب افريقيا الجديدة المتطلعة للمستقبل، بعد ان طويت صفحة الماضي بكل آلامه ومعاناته للأبد. ومن هنا أصبح مانديلا حقا وفعلا قيمة إنسانية بالغة الرقي والثراء واحتل مكانة رفيعة في ضمير إفريقيا والعالم.