نبدا بابا جديدا من تحليل ظواهر الثقافة السياسية من حيث الاهتمام بتحولات ثقافة المسؤلية الدستورية والسياسية. ونقصد بمنطق الثقافة المسؤلية السياسية ليس التركيز علي البعد الثقافي أو رؤية منطق المسؤلية السياسية باعتبارها تعبيرا عن ابنية وطبقات ثقافية حيث تتم رؤية الثقافة في سياق ودلالة ومغزي المفاهيم والمعاني والخطابات المرتبطة بها . لكن نقصد رؤية ثقافة المسؤلية الدستورية والسياسية باعتبارها آلية وظيفية وبنائية تخلق مجالا مجتمعيا متغيرا يتسع ويضيق وفق الاحتياج المجتمعي، تتفاعل فيه المتغيرات المادية والمعنوية والرمزية لظاهرة المسؤلية السياسية كظاهرة دستورية ومؤسسية وتفاعلية. بعبارة اخري، بهذا نحول التحليل الثقافي للظواهر الاجتماعية من الرؤية الثقافية وفق التصور التقليدي أو حديث باعتباره تكوين مجتمعي متغلغل في الواقع كمفهوم وممارسة معنونية ورمزية، الي الرؤية المسئولية الدستورية والسياسية كتصور مفهومي معرفي قادر علي خلق واقعه وتغيره، تتشكل وتتغير المادة فيه، بالمعني الواسع لها، باعتبارها تجسيدا لعلاقات سلطة والقوة ، وتتحور بشكل مستمر وفق سياق مؤسساتي وابنية ووظائف ممتد تجري عليها افعال وديناميات الزمن . دعني أوضح بعض المداخل لهذا التصور المعرفي المتجدد في تشكيل واقعه ومتغيراته في سياق بناء ظاهرة المسئولية الدستورية والسياسية: اولا، يتمثل الهدف من التحليل لظاهرة الديمقراطية في مقصدين كبيرين، أولهما، توسيع قدرة الافراد علي التصرف بحرية وفق القانون، وثانيها، توسيع القدرة علي خلق ابنية ومؤسسات تتستجيب للحاجات المتغيرة للمشاعر والقيم والظروف المادية وغيرها من اعتبارات. بمعني آخر، ان القدرة علي الحكم تتطلب ممارسة ومفهوما متغيرا للاحتياجات المؤسسية والوظيفية في ضوء الحفاظ علي النظام العام للمبادئ والمثل العليا للديمقراطية، ثانيا، المسئولية الدستورية والسياسية لها بناء ثقافي مرتبط مفهوم مؤسسي ووظيفي متغير مع ممارسة الحكم في الدولة والمجتمع. تبرز أربعة مكونات تفاعلية لهذا البناء الثقافي : اولها، مفهوم السلطة الدستوريه ، ثانيها، مفهوم السلطة السياسية، ثالثها، مفهوم الرقابة الدستورية، رابعها، مفهوم الرقابة السياسية. هذه المفاهيم الأربعة مرتبطة عبر اشكال مختلفة بتطور الوعي المؤسسي والوظيفي في المجتمع والدولة، ثالثا: قاعدة عامة أنه كلما حدث توافق مفهومي ومعرفي بين المتغيرات المرتبطة بالمشاعر والقيم والظروف المادية كلما حدث توازن واستقرار في هذا البناء الثقافي المركب المسمي "المسئولية الدستورية والسياسية"، هذه هي الحالة المثالية ولا تتوافر الا نادرا في خبرات الامم والشعوب. الارجح ان تكون هناك مفارقات بين التكوين المفهومي لهذه المكونات التفاعية الأربعة. وتأتي المفارقات باشكالها البيسطة او العميقة من تواجد وبروز تاريخ مفهومي خاص لكل مكون من المكونات الأربعة في سياق تفاعل الدولة مع المجتمع، بحيث في بعض الاحيان يشعر المرء العادي او السياسي بأنه يعيش وفق معايير مختلفة لذات التفاعل الممتد والعقد والذي يأخذ تجلي مؤسسي أو وظيفي معين، رابعا: هذه السلسة تبحث في اصول مفارقات وعدم تناغم مكونات الهيكل الدستوري السياسي في مصر. تهدف هذه السلسلة الاجابة علي عدة اسئلة مهمة بشأن خلق وتحول التصورات عن الواقع المصري: اولها، لماذا تعاني مصر من المفارقة الصارخة في كثير من الاحيان بين المنطق الدستوري والمنطق السياسي ؟ وكيف يظهر ذلك في التناقض بين المقتضيات الرسمية للمسئولية الدستورية ومقتضيات ممارسة السلطة الفعلية لنواحي المسئولية السياسية؟ هل المسئولية الدستورية او السياسية لها اتصال سببي بنمط المشاركة السياسية، واذا كان واقعا، فما هو هيكل العلاقة السببية وشكلها؟ هل عنصر الوعي بالتاريخ الخاص لكل مكون مفهومي من مكونات البناء الثقافي للمسئولية الدستورية والسياسية المسبب للمفارقات الصارخة والمزعجة التي نعاني منها ، ام أنه يمكن تكيف هذه المفارقات من خلال بناء معادلات وسيطة تسمح بالتفاعل اللين؟ وماذا نفعل لكسر هذه الحلقه الجهنمية الشريرة التي تدفعنا الي عدم التناغم؟ خامسا: لا اقصد من مفهوم التناغم من عدمه ظهور الحالة التاريخية المصرية المعاصرة بشكل حدي او ثنائي القيم ، فالحالة المصرية المعاصرة هي حالة من تشوش القيم والرغبات والحاجات المادية . الامر الذي يدفعنا الي بناء نموذج المسئولية الدستورية والسياسية في حالة التشوش أو قول أخر الضبابي. ونستكمل التحليل.