كنا نتصور أن الجنوح للعنف ليس من سمات المصريين،..، فإذا بنا نري عنفاً متناميا ومتصاعداً منذ فترة ليست بالقليلة، أحاول دون جدوي إيجاد مساحات جديدة لواقع مختلف.، تسمح بالتحليق فيها ولو للحظات، بعيدا عن مساحات القلق والتوتر السائدة الآن في كل مكان وزمان، والتي غرست في أعماق نفوسنا جميعا، قدرا كبيرا من الكآبة والإحباط، وافتقاد اليقين، وصعوبة الرؤية المبصرة، وايضا التوجس لما هو قادم في مستقبل الايام، رغم انه مازال مطمورا في جوف الزمن. وفي محاولاتي غير المجدية تلك، يلفت انتباهي بكل الألم، ويستوقف نظري بكل الحزن، ما نحن موغلون فيه من الغرق في موجات الغضب، ودوامات العنف والصدام، التي اشتعلت في كل مكان، واحتلت كل موقع، في ظل ما نحن فيه من اختلاف وجدل، وتشتت وانقسام، وما نحن عليه من توتر واحتقان، وما نعانيه من أزمات سياسية، واختناقات اقتصادية، تكاد تعصف بنا وتجرفنا في طياتها. وأكثر ما يوجع النفس في كل ذلك هو ما طفح علي السطح مؤخرا من ظواهر مرضية تعكس اعوجاجا في الشخصية المصرية.. كما كنا نتصورها أو نفهمها والتي ألفناها ولم يطرأ علي بالنا ولم يطف بخيالنا يوما انها يمكن ان تتغير أو تتبدل،..، وإذا حدث فلن يكون بهذا القدر الكبير أو الجسيم من التغيير أو التبديل الذي نراه الآن واقعا مجسدا. كنا نتصور، بل نؤمن باليقين ان الجنوح للعنف ليس من سمات الشخصية المصرية علي الاطلاق، فإذا بنا نري عنفا متناميا ومتصاعدا في أماكن كثيرة،..، وكنا متأكدين اننا بعيدون عن العدوانية، فإذا بنا نشاهد ونلمس ميلا للعدوانية لدي البعض منا. وهو ما ظهر جليا في انتشار وتعدد حالات الاعتداء علي الافراد والممتلكات بطول وعرض البلاد. وكنا نظن، وبعض الظن ليس اثما، اننا من سلالة البنائين العظام في هذا العالم، واننا من احفاد صناع الحضارة الاوائل في تاريخ البشرية،..، وفي ذلك كنا نباهي العالم بما تركه الأجداد من صروح وآثار شاهدة علي ذلك، وما تدل عليه من عظمة وعبقرية ابائنا الاوائل،..، وكنا نتصور اننا اشبال من نسل هؤلاء الاسود. فإذا بنا، أو البعض منا علي الاقل يتحول الي الهدم و التدمير والتخريب وإشعال الحرائق، في كل ما هو قائم، دون ان يشعر بذنب أو جريرة، ودون حتي ان يشعر بوخز الضمير،.، بل للاسف يشعر بالفخر ويرفع يده بعلامة النصر، وهو يرتكب هذا الإثم، ويقوم بتلك الفعلة الشنعاء. كل ذلك مؤلم، وكله موجع للنفس، وجميعه يثير الغضب والحزن في ذات الوقت، ولكن ما يدفع للإحباط حقا، وما يثير في النفس مخاوف كبيرة، وقلقا عظيما هو ما تعنيه هذه الظواهر مجتمعة، وما تدل عليه من متغير كبير بالسلب طرأ علي الشخصية المصرية، وغير في مكوناتها وسماتها الاساسية، بحيث اصبحت علي ماهي عليه اليوم من صفات ما كنا نتوقع ان تتصف بها، ومن سلوكيات وأفعال ما كنا نتمني ان تقوم بها. واذا كان اكثر ما يخيف ويقلق في المتغيرات التي طرأت علي الشخصية المصرية هذه الايام، هو في رأي الكثيرين ذلك الجنوح البادي نحو العنف، والميل الواضح للعدوان، والخروج المعلن علي القانون، فإنني اضيف الي ذلك ظاهرة او صفة اخري تحمل في طياتها الكثير من الدلالات السلبية، شديدة التأثير وبالغة الخطر، علي مسيرة الأمة، ومستقبل الوطن وهي ضياع قيمة العمل، وغيبة ثقافة النجاح. ولعل ما تراه سائدا ومنتشرا هذه الايام، وطوال الاسابيع والشهور الماضية من توقف أو تعطل لدولاب العمل وعجلة الانتاج في العديد من المصانع والشركات والمؤسسات العامة والخاصة، هو المثال الحي والصارخ علي ما اصبحنا عليه من إهدار لقيمة العمل، وفضيلة الانتاج،..، ليس هذا فقط، بل الأدهي والأكثر مرارة من ذلك، هو ما نراه ونشاهده من مطالبات عديدة، ونداءات جمعية، بزيادة الأجور وأرتفاع الرواتب، والبدلات في ظل توقف العمل وقلة الانتاج. وبالطبع سيقول البعض وأنا منهم ان هذه الظاهرة تعود في جزء منها الي قدر الظلم والتهميش الذي تعرض له العاملون في هذه القطاعات طوال السنوات الماضية، وان لهم الكثير من الحق في المطالبة بهذه الاستحقاقات التي لم يحصلوا عليها طوال سنوات حتي يستطيعوا ضمان الحق الادني من كرامة العيش هم وأسرهم. ولكني اقول في ذلك ايضا، انه بالرغم من ذلك فإن الضرورة تفرض علي الكل الإدراك الواعي بأن الدولة ممثلة في الشركات والمصانع والمؤسسات لا تستطيع علي الإطلاق الوفاء بهذه الاستحقاقات جميعها بين يوم وليلة، أو دفعة واحدة، وان المنطق والمصلحة العامة، وايضا المصالح الخاصة لهؤلاء المطالبين بالحقوق تقتضي ان نمهل الوطن والدولة بعض الوقت لاسترداد الانفاس، حتي يكون قادرا علي الوفاء بالحقوق،..، ولكن ذلك لم يحدث، بل تحول الكل الي رفع عقيرته بالمطالب، والإصرار علي ان يحصل الآن وفورا علي ما يراه هو حق له، متجاهلين حكمة الله جل قدره وعظمت قدرته، في خلق الدنيا في ستة أيام، وكان مستطيعا ان يخلقها جميعا في اقل من كسر من الثانية لو أراد سبحانه وتعالي. وقد يكون من المناسب بل والضروري في السياق الخاص بإهدار قيمة العمل، الذي اصبح ظاهرة واضحة وسائدة طوال الايام والاسابيع، والشهور الماضية، ان تعود بالذاكرة.. الي الوراء قليلا، وبالتحديد الي يوم الخميس الرابع من اغسطس العام قبل الماضي، اي 1102 حيث عقدت بالاسكندرية ندوة نظمها الاتحاد العام للغرف التجارية، مع غرفة تجارة الاسكندرية، حول الحد الادني للأجور، حيث كانت تلك قضية مطروحة بشدة للبحث والنقاش في ذلك الوقت،..، وبالمناسبة ما زالت ايضا مطروحة حتي اليوم. وما يهمنا في هذه الندوة، ان وزير القوي العاملة في ذلك الوقت، وكان هو الدكتور احمد البرعي، ذكر رقما ملفتا للإنتباه، ومستحقا للتوقف امامه بكل عناية واهتمام، حيث قال الرجل، ان فرص العمل في مصر قد تراجعت بنسبة تصل الي 74٪ عن العام الماضي، بسبب الاعتصامات المستمرة التي شهدناها طوال هذه الفترة. واذا ما صح الرقم الذي ذكره الوزير في هذا الوقت، اي منذ عام ونصف تقريبا، واعتقد انه صحيح، فلذلك معني واضح وهو ان هناك نقصا يكاد يصل الي النصف في كم وعدد فرص العمل المتاحة في هذا الوقت، عما كان متاحا ومتوافرا قبلها بعام،..، وهذا شيء خطير. واذا كان ذلك هو الوضع في الرابع من اغسطس عام 1102، وحيث ان الوضع لم يتغير الي الافضل علي الاطلاق منذ هذا التاريخ وحتي الان، بل للاسف الشديد ازداد سوءا وتدهورا، في ظل ما نلمسه جميعا من هبوط سوق العمل، وانخفاض وندرة فرص العمل المتاحة امام الشباب، نظرا لتوقف عجلة الانتاج عن الدوران بكامل طاقتها، ونظرا لما نراه من تعثر وغلق لمصانع وشركات كثيرة، في ظل استمرار الاعتصامات والاضرابات عن العمل، وتعدد المطالب الفئوية،..، فإننا لا يجب ان يصيبنا الاندهاش مما وصلنا اليه الان بعد عام ونصف فقط من ازمة اقتصادية طاحنة، اصبحت تضغط علينا وتكاد تطيح بنا وتوردنا موارد التهلكة مالم ننتبه ونفق مما نحن فيه. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن، في ظل هذا الذي نراه ونلمسه من متغيرات جسيمة طرأت بالسلب علي الشخصية المصرية، هو هل نستسلم لما نحن فيه، وما اصبحنا عليه، أم نسعي جاهدين للخلاص واستعادة ما فقدناه من قيم عليا وصفات اصيلة؟.! وأسباب طرحنا لهذا السؤال، تعود في الحقيقة الي انه اصبح مطروحا وبإلحاح علي الجميع، في ظل ما هو مشاهد وملموس من ظهور وانتشار تلك المظاهر السلبية، التي طغت علي السطح مؤخرا، وحجبت أو كادت تحجب القيم والسلوكيات النبيلة والسامية، التي كانت سائدة وبارزة ولصيقة ومميزة للشخصية المصرية طوال تاريخها الضارب في عمق الزمن وأغوار التاريخ. وحتي لا تتوه منا المعاني في ظل ضبابية الرؤية التي اصبحت سائدة الآن، واختلاط الاوراق الذي اصبح منتشرا، نقول ان السلبيات التي نعنيها هي ظاهرة العنف والبلطجة، والانفلات الامني، والخروج علي القانون، وما ادي اليه ذلك، وما تواكب معه، من شيوع ظاهرة التوقف عن الانتاج، وتعطل بل وتوقف العمل في العديد من المؤسسات والشركات، والمصانع، والتفرغ شبه الدائم من البعض للاحتجاجات والمطالب الفئوية، والاعتصامات في مواقع عديدة،..، وما ادي اليه ذلك كله من انهيار للاقتصاد، الذي اصبح تهديدا واضحا وملموسا ومؤثرا لجميع الطموحات المشروعة للشعب، الذي كان ولا يزال متطلعا للعدالة الاجتماعية، والحياة الكريمة، لكل المواطنين في ظل دولة مدنية حديثة تقوم علي الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والالتزام بالقانون. واذا كان الأمر يحتاج الي مزيد من الشرح، أو التفصيل، فقد يكون مجديا ان تضيف الي ما قلناه سلفا، ان هناك العديد من الوقائع المرفوضة تحدث امام اعيننا، أو نسمع بها، أو نقرأ عنها، ويتناقلها الناس ليتردد صداها في المجتمع كله، مخلفا وراءه مشاعر مختلطة، تجمع ما بين الغضب والقلق والاحباط. والسمة الظاهرة والجامعة في كل هذه الوقائع، وكل تلك الأحداث هي صفة البلطجة والعنف الزائد عن الحد، والتعدي علي القانون، وكسر ما تعارفنا عليه من تقاليد وقيم انسانية واجتماعية ودينية، وما التزمنا به من أخلاقيات. ويجمع بين كل هذه الوقائع دلالة الانفلات الذي اصبح حالة مرضية، شاعت وتفشت واصابت البعض من ضعاف النفوس، ومعوجي السلوك، الذين اغراهم الخلل الذي اصاب اجهزة الأمن، فراحوا يعيثون في الأرض فسادا.. ويعتدون علي الممتلكات والانفس، ويروعون الناس عيانا بيانا، وفي وضح النهار. والآن.. دعونا نقولها صريحة وواضحة، انه لا يمكن ان يكون لهذا الذي يجري امام اعيننا وعلي مشهد ومسمع من العالم بمختلف صفوفه وألوانه، وقع الرضا أو القبول علي الإطلاق من اي مواطن محب لهذا الوطن الذي ننتمي اليه جميعا، ونحلم بأن يكون غدنا فيه أفضل من اليوم.