عبدالحافظ الصاوى الحياد وهم كنت أتخيل وجوده لدي بعض الباحثين والسياسيين من قبل، ولكن في معترك الحياة بعد أن أصبح هؤلاء الباحثين والساسة جزء من العمل المجتمعي والسياسي سقط الجميع في مستنقع التحيز الأعمي، وهو الأمر الذي يجعلك تفقد الكثير من مصداقية العمل البحثي والعلمي بل والمجتمعي في مصر. كتبت هذه السطور بسبب ما رصدته علي مدار الأيام الماضية من كتابات ومساهمات إعلامية مختلفة لزملاء باحثين في المجال الاقتصادي بل وأساتذة لهم باع في العمل البحثي والفكري. حيث أثار هؤلاء الباحثون والأساتذة الكرام مجموعة من الشبهات حول قضية الهوية الاقتصادية للدستور المصري. وكأن الدستور المصري لابد أن يتبع هوي البعض من انتماء اشتراكي أو رأسمالي، علي الرغم من علمهم التام بأن أيًا من النظامين المجردين لا يوجد علي أرض الواقع إلا في كوريا الشمالية مثلًا أو كوبا، وهي دول تعاني من أزمات ومشكلات اقتصادية جمة. فأهم قضيتين حاكمتين في الهوية الاقتصادية، هما قضية الملكية ودور الدولة في النشاط الاقتصادي. ونجد أن الدستور الجديد، قد جمع بين الملكية الخاصة جعلها مصانة، وفي نفس الوقت أعطي هذا الحق للدولة في التملك. وبالتالي نخرج من سلبيات كلا النظامين الاشتراكي الذي يجعل الملكية العامة هي الأصل، وإذا سمح بملكيات خاصة فتكون في أضيق الحدود، وكذلك النظام الرأسمالي الذي يجعل من الملكية الخاصة الأصل والملكية العامة في حدود دور الدولة الحارسة التي لا تقوم إلا بوظائف أربع وهي (العدالة والأمن الداخلي والدفاع والعلاقات الخارجية). ففي المادة 21 من الدستور جاء النص الأتي "تكفل الدولة الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف وتحميها، وفقًا لما ينظمه القانون. ثم أتت المواد من 22 ذ 25 لتنظم قواعد هذه الملكيات. أما عن دور الدولة في النشاط الاقتصادي، فقد جمع الدستور بين دور للدولة ودور لكل من القطاع الخاص والتعاوني، فحدد هدفًا للاقتصاد الوطني وهو تحقيق التنمية المطردة ( مادة 14). ثم أشار إلي مهمة الخطة العامة للدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وكذلك تنمية الريف والبادية. وهذه المسئوليات يشترك في تحقيقها القطاعين العام والخاص. ثم عرج الدستور إلي قضايا مهمة مثل حقوق العمال، من المشاركة في الإدارة والأرباح، وربط الأجر بالإنتاجية، وضرورة توفير الحد الأدني للأجور الذي يوفر حياة كريمة. وثمة أمور أخري لا يتسع المقام لذكرها. ومن هنا نجد أن الدستور قد حدد هوية الدستور بأن لدينا اقتصادًا مختلطًا يتلافي سلبيات النظامين الاشتراكي والرأسمالي، بما يتفق مع روح الشريعة الإسلامية التي تعبر عن هوية مصر وشعبها. والممارسات العملية للنظم الاقتصادية، أو الهوية الاقتصادية، لا تعرف هذا الجمود الذي يطالب به البعض، وأذكر بعض الأمثلة علي هذا الأمر حتي يكون القارئ علي بينة. الصين التي تتبع المذهب "الماوي" نسبة إلي "ماوتستونج" الذي يعد النموذج المتشدد في الشيوعية، تدخل بعمق في تطبيق اقتصاديات السوق، من أجل مصلحتها الاقتصادية، وعدلت العديد من قوانينها الاقتصادية والإدارية لتتناسب مع هذا التوجه. أيضًا في فرنسا في مطلع عام 2010 صدرت قوانين تنظم عمل البنوك الإسلامية هناك، واعترضت بعض القوي العلمانية، علي اعتبار أن الدستور الفرنسي علمانيًا ولا يقبل بوجود بنوك علي أساس ديني. ولكن الحكومة ساقت مبررات اقتصادية لمسلكها بسن قانون منظم لعمل البنوك الإسلامية. منها أن فرنسا في حاجة إلي نصيب من هذا الاستثمار الذي تستحوذ عليه بريطانيا وأمريكا، والأمر الثاني أن بداخل فرنسا 8 مليون مسلم وهذه الخدمة تستوعب عدد كبير منهم. وخرج التشريع إلي النور في فرنسا العلمانية، والتي تسيطر علي مقدراتها السياسية أحزاب اشتراكية عريقة. بل سمحت فرنسا بتدريس الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية في جامعاتها علي مستوي البكالوريوس والدبلوم. المثل الأخير في أمريكا حيث قامت الحكومة الأمريكية قلعة الرأسمالية بتأميم أكبر شركة تأمين عقب وقوع الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008. ولم يكن ذلك توجهًا شيوعيًا من أمريكا، ولكنها فعلت هذا من أجل انقاد هذه الشركة التي ضخت فيها نحو 85 مليار دولار من أجل إنقاذ نحو 300 بنكًا. وبالتالي فالدافع هنا هو المصلحة. ولم نجد المسئولين الأمريكيين يطبقون قواعد الرأسمالية التي ترفض هذا التدخل بحجة اليد الخفية أو أن السوق قادر علي تصحيح نفسه، وأنه لا مانع من انهيار شركة التأمين وما يتبعها من بنوك، وانهيار ما يتبع هذه البنوك من مؤسسات اقتصادية.