علاء عبدالوهاب السبت : امتلاك الحقيقة.. الركض سعياً لليقين.. الوصول لاثبات ما لا برهان عليه.. و... و... اماني من تلك النوعية تستحوذ علي العقول، وتسيطر علي خيالات اصحابها، وقد يضيع العمر وراء سربات من المستحيل تحصيلها، ثم لا يفيق المرء إلا وهو قاب قوسين او ادني من النهاية المحتومة! غرور الانسان- لاسيما اذا كان صاحب ذكاء مشهود- يغريه احيانا بقدرته الاستثنائية علي استشفاف المستقبل، وتغريه اكثر لعبة بناء سيناريوهات متعددة، يتصور انه- من خلالها- يستطيع توقع كل الاحتمالات، وانه لن يفلت من خططه احتمال واحد لا يقدر علي التصدي له او مواجهته، والتعامل معه. لكن المفاجآت تتوالي وربما تقع فوق رأس الذكي المغرور كالمطارق الثقيلة، فإذا به وجهاً لوجه امام موقف غير قابل للتوقع عبر اي من سيناريوهاته التي كان يباهي بها! لا يعني ذلك ابداً ان يتوقف الذين يتلمسون آفاق المستقبل عن سعيهم او ان تغلق المراكز المتخصصة في التنبؤ بالاحداث والازمات ابوابها، او ان يعتزل الخبراء والعلماء الساهرون علي سيناريوهات تتطلع لمواجهة تحديات الغد وبعد الغد العمل والسهر بانتظار ما تأتي به الاقدار. فقط علي الجميع ان يحذروا لقاء »البجعة السوداء«! .................... قد تمثل الاشارة إلي وجود »بجعة سوداء« مفاجأة صادمة، فهي عكس اعتقاد ساد مئات وربما آلاف السنين بل إن خبرها لم يصل إلي علم كثيرين، لكنها علي اي حال الحقيقة التي تصورها الجميع المستحيل بعينيه! دون سابق انذار تم اكتشاف نوع من »البجع الاسود« في استراليا، فإذا بمفكر عربي يلتقط الخيط لينسج نظرية بديعة، لو تسلح بها كل مهموم بشئون المستقبل وسيناريوهاته، فقد يوفر علي نفسه، ومن يأخذ بتوقعاته اثمانا باهظة يصعب تعويضها لأن ما يقع لا يمكن اعادة عقارب الساعة لتداركه! نسيم طالب او صاحب »البجعة السوداء« مفكر عالمي الصيت، عربي الجذور لم يتعامل مع »البجعة السوداء« باعتبارها حكاية تدعو قارئها للدهشة، لكنه بني عليها نظرية مفادها ان هناك دائما اموراً غير متوقعة وكثيرا ما تكون غير قابلة للتنبؤ، وغالبا ما تكون أشد تأثيرا في حياة الناس، من ثم فإن علي من يضع خططا للمستقبل ان يكون باستمرار علي استعداد للتعامل مع خطر بعيد غير قابل للتوقع، ينبغي ان يكون جزءا لا يتجزأ من أي خطة! »ان اخطر ما يخبئه المستقبل لا يمكن التنبوء به« من هذه النقطة ينطلق نسيم طالب إلي تأكيد ان اخطر واهم احداث التاريخ وقعت بفعل المفاجأة، كانت غير متوقعة، ويضرب العديد من الامثلة؛ بداية من الحرب العالمية الاولي مرورا باكتشاف الكمبيوتر، وصولا لاحداث 11 سبتمبر 1002، ولن تكون النهاية بانفجار الازمة المالية التي اجتاحت العالم انطلاقا من امريكا، وكلها احداث ليس فقط غير متوقعة، لكنها ايضا كانت غير قابلة للتوقع! ................ المثير انه رغم الاصول العربية لصاحب »البجعة السوداء« فإن العرب، ربما يكونون بين اكثر شعوب المعمورة ادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، واليقين والقدرة علي قراءة المستقبل، ربما يكون الاصوب انهم يمارسون ذلك عبر قراءة الفنجان، واللجوء للعرافين واهل الدجل! ليتنا نصغي لنصيحة مجرب، ونعلم ان تجارب الانسان تفيده في فهم المستقبل لكن الخطأ- علي حد قول نسيم طالب- هو المبالغة والاعتقاد الاعمي بأننا قادرون علي استشفاف المستقبل بكل ابعاده، فالحقيقة ان هناك حدودا لما يمكن التنبؤ به. لنأخذ بالاسباب، ونجتهد في محاولة قراءة المستقبل - وفق مناهج علمية - لكن لنضع نصب اعيننا دائما ان هناك »بجعة سوداء« بانتظارنا دائما في مفترق طرق، او منعطف قريب، قد تواجهنا من حيث لا نحتسب، وفي الوقت الذي تختاره هي ولا نختاره نحن! مشكلة البعض لا تتجلي فيما لا يعرفه، ويعرف انه لا يعرفه، لكنها تتمثل فيما لا يعرفه، ولا يعرف انه لا يعرفه، وغالبا ما يقوده ذلك إلي كوارث لا يتجرع مراراتها وحده، وإنما يفرضها علي كل من حوله، وربما ينقذه وجميع ضحاياه ان يتعرف علي صاحب »البجعة السوداء« ويقترب من ملامح نظريته! »اللايحة«.. وسنينها! الأحد: الوقت متأخر.. لا احد يعلم بوجودي ساهرا، علي الاقل لأن استمراري لهذه الساعة المتأخرة ليس بقصد انجاز بعض الاعمال المؤجلة، لكنها محاولة للاختلاء بنفسي، وممارسة فعل الكتابة في مواجهة مهام ادارية تحول دون ذلك! رنين الجرس يلح.. اصبر حتي يتوقف.. ما يلبث الطالب ان يعاود إلحاحه.. »من يراهن علي وجودي حتي الآن؟« اتساءل للمرة الثالثة يمارس اصراره.. مضطرا أرد .................. تفاصيل كثيرة، مراوغات، مفاوضة حول ما لا حق للطالب فيما يطلبه، تذكره بأن ثمة لائحة هي بمثابة القانون تنظم الحقوق والواجبات في المؤسسة، كأنك تتكلم مع نفسك! تحاول إفهامه ان لا احد فوق اللائحة، تماما كما ان احدا لا يجب ان يتجاوز القانون. عبثا تذهب المحاولة تلو المحاولة! تكرر الجملة بعدة صياغات، ثم تقول قولا واحدا: العامل اي عامل - مهما كان موقعه - قد يطلب اعفاء من تأخير، او يلتمس اذنا بالرحيل المبكر، وتجيز اللائحة احتساب يوم عمل لمن تأخر او انصرف باكرا، لكن كيف للطالب ان يستحل اياما لم يوقعها ثم يلح في السعي لتحصيل اجرها؟ فإذا به يقول: رئيسي وافق علي ذلك! وحين ترد: لا انت ولا هو فوق القانون، اقصد اللائحة. يستنكر قولك، ويؤكد ان لا شأن لك إلا تمرير رغبته ولتذهب اللائحة إلي الجحيم! تذكره بأن ثمة جانبا اخلاقيا في المسألة يتجاوز النصوص والمواد، ولا مرجعية له إلا الضمير. للحظة تتصور انك تتحدث لغة اخري غير التي يسمعها محدثك. تطيل صبرك، تحاول مرة ومرات، لكن لا فائدة، تذهب كل المحاولات سدي، كأنك تخاطب قلبا مغلقا قبل ان يكون صاحبه قد صم اذنه عما يسمع! أخيراً، لا يجد مفرا من الكف عن مراوغته، ولا يجد أمامه إلا ان يلعن اللايحة وسنينها! في صومعة افتراضية! الاثنين: كوبري اكتوبر دائما مزدحم، الإ ان هذا الصباح مختلف عن غيره من صباحات ذات اليوم في الاسابيع الماضية. ازدحام غير عادي يتطلب مواجهة - غير تقليدية - تتناسب معه، لم يتوافر بين يدي كتاب او مجلة أتشاغل بها عن ضيق الزحام الاستثنائي.. ليس امامي الإ التأمل! قد يروقني الدخول لحالة تأمل اختياري، لكن ان يكون الامر مفروضا فإن قدر المتعة يقل كثيرا.. الامر لله من قبل ومن بعد. ازعاج آلات التنبيه الحادة يدفعك بعيدا عن اي محاولة لبناء صومعة افتراضية تلوذ بها حتي تصل إلي مقصدك! ما علينا، أُطل من صومعتي متأملا الاعلانات التي تعترض بصر كل من يسوقه قدره، للمرور فوق الكوبري المزدحم، ثمة آداب تعلمناها علي مقاعد الدراسة في كلية الاعلام تبدو غائبة عن عمد، كان اساتذتنا يؤكدون لنا دائما ان الاعلان: فن وعلم ورسالة، لكن الكثير من الاعلانات التي تقطع عليك الطريق تؤكد عكس كل ما تعلمناه! المهم ان ينجح مصمم الاعلان فيما يتصور انه الترويج الامثل للمنتج او السلعة، بعيدا عن اي آثار جانبية سلبية تلقي بظلالها علي الجمهور! لا اتصور ان المعلن او المصمم فكر للحظة في اجابة سؤال من نوع: ماذا يحدث لو انه بصحبة ابنه الطفل او ابنته المراهقة، يطالعان معه الاعلان الذي حدد مواصفاته او صممه؟ ثم عدت انظر لاعلان بعين صاحبه أو مبدعه، ولم اتمالك نفسي من الابتسام، محدثا اياها: قد يكون ذلك هو الجزاء العادل، ان يتجرع طباخ السم الوجبة المبتذلة التي تفنن في اعدادها، بل والاهم ان يعاني حرجا في مواجهة ابنه او ابنته، حين يلح احدهما علي فهم التلميحات او الاشارات التي يحتويها اعلانه المسموم! فجأة حدثت انفراجة، اسرعت السيارة دون سبب واضح، ولذت بصومعتي الافتراضية حتي وصلت إلي الجريدة.