طلب مني الأستاذ أحمد السيد النجار, رئيس تحرير التقرير السنوي للاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية, إعداد ورقة عن مستقبل النظام الرأسمالي لنشرها في هذا التقرير الذي يصدره مركز الدراسات بالاهرام. وبعد قليل من التردد لضيق الوقت وافقت علي إعداد الورقة المطلوبة, وعندما بدأت الكتابة شعرت بمدي الادعاء الذي يجول بخواطرنا حين نتحدث بخفة عن المستقبل, فنحن بالكاد نعرف قشور ما يدور حولنا من أحداث الحاضر, فما يظهر أمامنا في الأخبار أو الصحف ليس إلا قمة جبل الجليد, وتظل حقيقة ما يجري غائبة تحت الماء, بل إن أكثر ما نسمعه أو نقرؤه ليس دائما وجه الحقيقة الوحيد بل أحد وجوهها المتعددة وذلك بعد تصفيته وتعديله وتحويره وتجميله, وهكذا فمعرفتنا عن الحاضر جزئية وناقصة وأحيانا مشوهة, هذا عن الحاضر, فماذا عن الماضي؟ أن ما نتذكره من الماضي أو ماينشر عنه لا يعدو أن يكون هو الآخر جزئيا ومتحيزا, وقد ضاعت منه أجزاء مهمة بلا شهود أومعالم, وهو كثيرا ما يكون تعبيرا عن صوت المنتصرين بما يتضمنه من تشويه وتحريف, عما حدث حقيقة علي أرض الواقع فالتاريخ يكتبه المنتصرون, وتذهب رواية الخاسرين أدراج الرياح ربما إلي غير رجعة. ورغم كل ذلك, فإننا نتجاسر وبجرأة للتساؤل عن المستقبل, ونتوقع أن نجد إجابة شافية عما نتوقعه للمستقبل, وليس في هذا غرابة, فقد كان الإنسان دائما شغوفا بمعرفة ما يخبئه له القدر, وربما بدأت الديانات نتيجة للرغبة في كشف حجاب المستقبل عن طريق التقرب من الآلهة, وكان الكهنة ورجال الدين هم الوسطاء الذين يستنطقون الآلهة, ولم يكن الإغريق أو الرومان يبدأون الحرب إلا بعد استطلاع رأي الآلهة, وتقديم الذبائح قربانا لهم لكشف المجهول وربما لتعديل مسار ونتائج المعارك القادمة لصالحهم, وظهر أنبياء بني إسرائيل لأنهم كانوا يتنبأون بالمستقبل, ومن هنا جاء اسمهم( أنبياء) وبعيدا عن الآلهة والأنبياء لجأ البعض من العوام إلي قراءة الإشارات والإيماءات في مختلف مظاهر الحياة لمعرفة ما تدخره الأقدار لنا. فهذا يقرأ المستقبل في حركات النجوم, وذاك يستقي معرفة الحظوظ من تواريخ الميلاد وتلاقيها مع حركة الأفلاك, وثالث يفرش الودع أو ينثر أوراق الكوتشينة لكشف المستور, ورابع يقرأ البخت في بقايا البن في فنجان القهوة, وكل ذلك لمعرفة المستقبل, بل نسمع عن بعض رجالات السياسة في بلدنا وفي غيرها ممن لا يقدمون علي عمل مهم دون استطلاع آراء المنجمين أو قراء الكف أو حتي نصائح المتصلين بالعالم الآخر من عالم الجن أو الأرواح, ويقال إن الرئيس الأمريكي ريجان وزوجته لم يكونا بعيدين عن هذه الممارسات. وبطبيعة الأحوال, فإن جميع هذه المحاولات لم تقدم إجابات قاطعة أو مقنعة, ولم يعد أمامنا سوي العلماء, فجاءت المرحلة الأخيرة بطلب استشراف المستقبل من العلماء والمفكرين, أليس العلماء ورثة الأنبياء؟ وهكذا بدأت موضة مراكز بحوث المستقبل والتي تضع سيناريوهات متعددة للمستقبلات, وبعضها يستخدم نماذج رياضية معقدة, وأغلبهم يلجأ إلي عرض رؤيتهم في رسوم بيانية أو باستخدام جداول إحصائية, ولا بأس من أن يضاف إليها معدل للخطأ حتي يكون استشراف المستقبل علميا أو شبه علمي. وأنا شخصيا أعتقد أن التنبؤ جائز ومقبول في بعض الأمور, وإن في حدود, فنحن نستطيع بدرجة معقولة من الدقة التنبؤ بمعدل نمو السكان, وربما بدرجة أقل معدل نمو الطلب علي سلعة معروفة مثل الطلب علي السيارات أو علي المساكن أو مستخدمي الإنترنت, وهكذا.. كذلك ليس هناك ما يمنع من التنبؤ بنتائج تجربة معملية محددة أو توقع ظهور شواهد طبيعية نتيجة لما اكتشف من نظريات علمية متراكمة, فهكذا يتم التحقق من النظريات العلمية. ولكن الأمر يصبح شيئا مختلفا إذا كان التساؤل عن قوانين التاريخ, ومسار المجتمعات والحضارات هنا نكون بصدد قضية أكثر تعقيدا وخطورة, ولايمكن التعرض لها بخفة أو رعونة, قد تكون هناك قوانين للتاريخ, وإن كنت أشك في ذلك ولكنها علي أي الأحوال خافية عن عيوننا, وهذا الجهل بالقوانين التاريخية, هو علي أي الأحوال خبر سار لأنه يفتح طاقة الأمل, فليس كل شئ حتميا, لأن التاريخ نصنعه بإرادتنا الحرة وتصميمنا فاعتناق فكرة الحتمية التاريخية هو إنكار للحرية الفردية. لقد جاء ماركس مؤكدا أن للتاريخ قوانين علمية للتطور, وأن البورجوازية( ولم يستخدم ماركس اصطلاح الرأسمالية) إلي زوال لصالح الاشتراكية العلمية, وقد تحققت نبوءة ماركس عن قيام الشيوعية ولكن ليس كما توقع في أكثر الدول الرأسمالية تقدما( إنجلترا), وإنما في أقلها تصنيعا( روسيا), ولم تلبث أن زالت معظم النظم الشيوعية في نهاية القرن العشرين. وكان كارل بوبر قد أشار في كتابه فقر التاريخية إلي استحالة وضع قوانين علمية للتطور التاريخي, فهذا تناقض منطقي في رأيه. وقبل وقوع الأزمة المالية الأخيرة خرج اللبناني الأمريكي طالب نسيم بكتاب عن البجعة السوداء, يؤكد فيه استحالة التنبؤ بتطور الاقتصاد فقد كان المعروف هو أن البجع دائما أبيض اللون, حتي اكتشف بطريق المصادفة وجود بجع أسود في استراليا, فتواتر الظواهر ليس دليلا قاطعا علي استمرارها, وكان دافيد هيوم قد قال شيئا من ذلك, وبعد ظهور ذلك الكتاب بسنة, وقعت الأزمة المالية فجأة دون إنذار أو تنبيه من معظم الاقتصاديين, ويصبح السؤال هل يخضع النظام الرأسمالي لقوانين حتمية التاريخ كما تنبأ ماركس, أم أنه أقرب إلي نظرية البجعة السوداء كما يدعو نسيم, والآن, فماذا عن مستقبل الرأسمالية؟ التساؤل عن ماهية الرأسمالية فما بالك عن مستقبلها سؤال ضخم, ولكن ماهي الرأسمالية أولا؟ وهل رأسمالية القرن التاسع عشر هي أيضا رأسمالية القرن الحالي؟ وهل كان قيام الحكومات العمالية في انجلترا وفرنسا بتأميم البنوك والصناعات الرئيسية بعد الحرب العالمية الثانية انصياعا للرأسمالية أم خروجا عليها؟ وهل إعادة تخصيص هذه المشروعات في الثمانينيات عودة إلي الرأسمالية أم ردة عنها؟ وهل تدخل حكومات الولاياتالمتحدةوإنجلترا أخيرا لإنقاذ البنوك والمؤسسات المالية من الإفلاس هو من طبيعة الرأسمالية؟ كل هذه وغيرها أسئلة مشروعة. والحقيقة هي أن الرأسمالية ليست نظرية علمية, وليس لها بالتالي كتاب مقدس, وإنما هي نظام اجتماعي تاريخي استوجبته الظروف خاصة الثورة الصناعية وتطور معها, وسوف يستمر في التطور, أما كيف تتجه مسارات هذا التطور في المستقبل؟ فهذا سؤال صعب يتوقف علي أمور كثيرة, منها ماذا يخبئ لنا التطور التكنولوجي وماهي أشكال مصادر الطاقة المستقبلية, وماذا يحدث في البيئة التي نعيش فيها, وماذا عن توازن القوي السياسية الدولية القائمة؟ وهل تستمر الولاياتالمتحدة في هيمنتها علي العالم أو تبرز الصين وربما الهند؟ التاريخ ليس كتابا مفتوحا كتب بلغة سهلة وواضحة, وعندما يتعلق الأمر بالمستقبل فإن اللغة المستخدمة تصبح أكثر غموضا وإبهاما فالمستقبل ملئ بالمفاجأت, وقد سبق أن نشرت مقالا في مكان آخر بعنوان المفارقات التاريخية, مبينا كيف تظهر حضارات وتختفي أخري من حيث لا نتوقع بناء علي أحداث صغيرة هنا أو هناك فكثيرا ما تقع واقعة صغيرة عادة معركة عسكرية لتفتح أبوابا لتطورات غير متوقعة أو غير متصورة, فمن كان يتصور في القرن الرابع للميلاد حين كانت المسيحية أقلية صغيرة في روما أن الإمبراطور قسطنطين بعد انتصاره العسكري علي منافسيه سوف يعتقد ان انتصاره قد تم بمؤازرة من رؤيته لرمز الصليب, مما دعاه إلي فتح باب الإمبراطورية للمسيحية, ولم يمض قرن حتي أصبحت المسيحية هي دين الدولة الرومانية في كل أطرافها, وبالمقابل من كان يتصور في بداية القرن السابع, أن قبائل عربية سوف تخرج من ديارها في الجزيرة العربية لتهزم في معركة القادسية إحدي أهم الإمبراطوريتين( الفرس), ويصبح الإسلام بعد ذلك أهم قوة سياسية في العالم آنذاك, ألم تخبرنا نظرية الفوضي في الطبيعة, أن فراشة قد تميل بأجنتها نحو اليسار أو اليمين في غابات الأمازون, فتغير من أحوال المناخ في العالم,وهكذا يتضح أن التساؤل عن المستقبل ليس بالأمر السهل أو الواضخ, وهو يطرح من التساؤلات أكثر مما يقدم من الإجابات. وهل معني ذلك أن الاهتمام بالمستقبل حماقة أو عبث كامل؟ كلا وألف كلا, العكس تماما هو الصحيح فلعل أهم ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات هو أنه كائن تاريخي يتذكر ماضيه ويعي حاضره ويتطلع إلي مستقبله فنحن نصنع المستقبل, فالمستقبل, ليس تكرارا للماضي بقدر ما هو اختراع جديد, كما أشار أحد العلماء في كتاب له بعنوان اختراع المستقبل, كأي اختراع لابد له من تصور مسبق, ولكن كثيرا ما تكون النتيجة النهائية مختلفة عن التصور المسبق عند المخترع, وبحيث يكون هو نفسه أول المفاجئين فللتاريخ حسابات أكبر من حسابات المفكرين. والله أعلم www.hazembeblawi.com المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي