بعد آخر ارتفاع ل عيار 21.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 23 أكتوبر 2024 في بداية التعاملات    «الوز ب125 جنيهاً والرومي ب135».. أسعار الدواجن والطيور في أسواق الإسكندرية 23 أكتوبر 2024    المالية: التحول الاقتصادي بإفريقيا يتطلب جهودا مضاعفة لدفع حركة النمو والتنمية    الرئيس السيسي يصل مقر انعقاد قمة «بريكس» بمدينة قازان الروسية    لوفتهانزا تمدد تعليق الرحلات إلى بيروت وطهران حتى أوائل 2025    بالأسماء.. تشكيل الزمالك المتوقع ضد الأهلي في السوبر المصري    قمة برشلونة ضد البايرن الأبرز.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    إصابة 11 شخصا إثر حادث تصادم بين أتوبيس وميكروباص في الشرقية    تحرير 553 مخالفة عدم ارتداء خوذة وسحب 1372 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني    نشرة مرور "الفجر".. انتظام حركة المرور بشوارع القاهرة والجيزة    انتحار شاب شنقا في الدقهلية    ضبط سائق بشركة توصيل شهيرة لسرقته هاتف أجنبي ببولاق أبو العلا    وزيرة التضامن تدعو عددًا من المسنين لحضور حفل هاني شاكر بمهرجان الموسيقى العربية    فريق طبي بجامعة أسيوط ينقذ فتاة من جلطة حادة مفاجئة بالشريان الرئوي    تداول 19 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة و550 شاحنة بموانئ البحر الأحمر    توقيع برتوكول بين الجهاز التنفيذي للمشروعات الصناعية والتعدينية وهيئة تنمية الصعيد    محافظ الغربية يكرم بسملة أبو النني الفائزة بذهبية بطولة العالم في الكاراتيه    رياح نشطة وأمطار على هذه المناطق.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس اليوم الأربعاء    بعد مقترح النائب محمد أبو العينين| خبير: خطوة نحو ربط التعليم بسوق العمل    وزير الخارجية الأمريكى: نرفض تماما إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة    عالمية القص منطق السرد السينمائى    مفاجآت الحلقة الأخيرة من "برغم القانون".. انتقام إيمان العاصى من أكرم    "وقولوا للناس حسنا".. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة عن القول الحسن    «التضامن» تقر توفيق أوضاع جمعيتين بمحافظة كفر الشيخ    ارتفاع حالات الإصابة بعدوى بكتيريا آكلة اللحوم في فلوريدا بعد موجة الأعاصير    تعاون مصري قبرصي لتعزيز الشراكات الصحية وتبادل الخبرات    رئيس فاكسيرا: توطين صناعة لقاح شلل الأطفال بالسوق المحلي بداية من 2025    جيش الاحتلال يعلن اعتراض مسيرتين قادمتين من الشرق في إيلات    «العمل» تُحذر المواطنين من التعامل مع الشركات والصفحات وأرقام الهواتف الوهمية    وزيرة التنمية المحلية: زراعة 80 مليون شجرة بالمحافظات حتى 2029    كيف انشق القمر لسيدنا محمد؟.. معجزة يكشف جوانبها علي جمعة    "عبد الغفار" يُدير جلسة حوارية حول تعزيز حقوق الصحة الإنجابية وديناميكيات السكان    إصابة عامل بطلق نارى أثناء عبثه بسلاح غير مرخص بالمنشاه سوهاج    في زيارة مفاجئة.. وزير التعليم يتفقد 3 مدارس بإدارة المطرية التعليمية    «أونروا»: شمال غزة يشهد كارثة إنسانية في ظل انعدام مستوى الأمن الغذائي    تعرف علي مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 23-10-2024 في محافظة البحيرة    عاوزين تخلوها صفر ليه، تعليق ناري من خالد النبوي على هدم قبة حليم باشا التاريخية    عمرك ما ترى حقد من «الحوت» أو خذلان من «الجوزاء».. تعرف على مستحيلات الأبراج    ارتفاع أرباح بيكر هيوز للخدمات النفطية خلال الربع الثالث    زعيم كوريا الشمالية يطالب بتعزيز الردع في مواجهة التهديدات النووية    نشرة المرأة والمنوعات.. فواكه تخلصك من رائحة الفم الكريهة.. سعر فستان هنا الزاهد في إسبانيا    عبد الرحيم حسن: شخصيتي في «فارس بلا جواد» كان «بصمة» في حياتي    أحمد عادل: لا يجوز مقارنة كولر مع جوزيه.. وطرق اللعب كانت تمنح اللاعبين حرية كبيرة    إبراهيم عيسى: اختلاف الرأي ثقافة لا تسود في مجتمعنا.. نعيش قمة الفاشية    هاريس: جاهزون لمواجهة أي محاولة من ترامب لتخريب الانتخابات    الكومي: فرد الأمن المعتدى عليه بالإمارات «زملكاوي».. والأبيض سيتأثر أمام الأهلي    منصور المحمدي يُعلن ترشحه لمنصب نائب رئيس اتحاد الطائرة بقائمة مخلوف    خبير يكشف موقف توربينات سد النهضة من التشغيل    أنتوني بلينكن: مقتل "السنوار" يوفر فرصة لإنهاء الحرب في غزة    مصرع طفل أُغلق على جسده باب مصعد كهربائي بكفر الشيخ    بعد إعلان اغتياله.. من هو هاشم صفي الدين ؟ (بروفايل)    دوللي شاهين تطرح برومو أغنية «أنا الحاجة الحلوة».. فيديو    إذا كان دخول الجنة برحمة الله فلماذا العمل والعبادة؟ أمين الفتوى يجيب    بركات يوم الجمعة وكيفية استغلالها بالدعاء والعبادات    البطريرك يلتقي عددًا من الآباء الكهنة والراهبات في روما    ملخص أهداف مباراة ريال مدريد ضد بروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا    رئيس جامعة الأزهر يتابع أعمال التطوير المستمر في المدن الجامعية    أرسنال يعود لسكة الانتصارات بفوز صعب على شاختار دونيتسك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
بيوت عابرة
نشر في الأخبار يوم 05 - 06 - 2012


جمال الغيطانى
يحدث كثيراً أن أتجه عقب وصولي إلي بلد ما صوب موعد لم أعد له ولم أتأهب، جري ذلك عند نزولي باريس وإقامتي بمنزل صاحبي علي الشوباشي رحمه الله في ذلك اليوم جاء إلي المطار رغم انه لم يخبرني، ورغم إصابته بسعال جاف مزعج اقتضي التوقف عن تدخينه سيجار نحيل قصير اعتاده، قوي الرائحة، غاب عني اسمه لكن يمثل أمامي بلون الشريط البني المحيط به، وعلبته التي تميل إلي الأصفر القاتم. بمجرد وصولنا البيت، قال إنه سيمر علي فريدة، كانت تعمل وقتئذ في إذاعة مونت كارلو، إنهما مدعوان للعشاء عند فيكي، إنها مهندسة الديكور التي أعادت صياغة الشقة وبطنت الجدران بالقطيفة الزرقاء، عندما أبديت تردداً قال إنني جزء من الأسرة، وهي صديقة حميمة، تعيش بمفردها بعد أن انفصلت عن صاحبها منذ شهر تقريباً.
عمارة ما في شارع ما، توقفنا أمامها، أزّ صوت الباب، رائحة عتاقة، السلم مغطي بسجادة تركية الطراز، المصعد ضيق، صعدت فريدة أولاً، ثم دخلنا نحن. تقف فيكي أمام البيت، قميص بنفسجي، ابتسامة فسيحة، تبدي ترحيباً خاصاً بالقادم لتوه من القاهرة، تطلعت إليها متعاطفاً، منفصلة عن صديقها، تبدو حميمة، غاب عني كل ملمح منها، لكنني أذكر اصطفافنا حول المائدة، ، فيما بعد قالت فريدة إنها يهودية، هي من أقرب صديقاتها في باريس، لطيفة جداً، فنانة وجدعة، لم أرها فيما تلا ذلك قط، تماماً مثل السيدة صاحبة الكلب.
صاحبة الكلب
الأماكن والشخصيات التي تعرفت عليها من خلال الدكتور عديدة يصعب حصرها، يعيش في باريس منذ خروجه من مصر لسبب ما في منتصف الستينيات، لا أعرف أموراً كثيرة عنه، بل يمكن القول إنني أجهل ما يمت إليه، لم أطلع إلا علي ما سمح به، ما عدا ذلك يقع في دائرة التخزين، ربما أعود إليه فهو ممن شغلني أمرهم، أذكره لأنني مضيت بصحبته إلي هذه السيدة، كثير ممن قابلتهم أنسي الأسباب المؤدية إليهم، أذكر بعضهم مبتوتاً عن السُبل، أحتفظ بلحظات من رفقتي له، تمشي في الشارع المؤدي إلي بيتها، قريب من حديقة اللوكسمبورغ، إحدي الأماكن التي أمضي فيها وقتاً للتأمل، بيت قديم من القرن السابع عشر، تسكن في الطابق الأول، تعيش بمفردها بصحبة كلب نادر النوع، ربما لبرادور، محمد ابني اقتني في صغره واحداً من نفس الفصيلة، كان أنثي، أتي بها صغيرة وشبت عبر عام واحد، ضاق البيت بها، أصبحت مشكلة، الشقة محدودة، ما من مكان إلا الشرفة، أرقبها بتأثر إذ تندفع نحوه عند قدومه من المدرسة، تشب علي قدميها الخلفيتين، تعانقه بالأماميتين، قمة سرورها عند مصاحبتها له في الوقت الذي خصصه عصراً ليمشي بها في الحديقة التي تتوسط العمارات الخلفية، إلا أن المكان ضاق بها مع بلوغها، بدأت أعراض حزن مصحوبة بمرض تظهر علي التوالي، إسهال، نوم متصل، عواء حزين، لم يكن ثمة مفر من التخلص منها، ذات عصر خرج محمد بصحبتها إلي فيللا صاحب له ميسور الحال، عنده حديقة يمكن لها أن ترمح فيها وتجري، في اليوم التالي مضي محمد لزيارتها، يعرف أنها ستفتقده خاصة في الأيام الأولي، إلا أن تردده عليها لم يخفف تعلقها به، كان يعود مكتئباً، قال إن عواءها أصبح له صفة بشرية، كأنه بكاء بشري ملتاع، فشلت جميع محاولات صاحبه لاستمالتها رغم انه نفذ بدقة جميع ما أصغي إليه من أهل التجربة، لم يطل الأمر، بعد عشرة أيام أغمضت عينيها إلي الأبد بعد انقطاعها عن الطعام، وَجَد عليها ابني زمناً غير يسير.
السيدة تمضي في الشارع مصطحبة كلبها، هكذا أتذكرها رغم انني أمضيت أكثر من ثلاث ساعات بصحبتها، عندما فتحت الباب رحبت بالدكتور، بدا لي أمرين، الأول اعتيادها لتردده عليها، بينهما ألفة، الثاني توقعها مجيء غرباء بصحبة من تعرفهم، أبدت وداً تجاهي، جاء آخرون، يمثل أمامي منهم رجل نحيل، صوته غليظ يوحي بكلمة »بعير«، يعمل في جريدة ما لا أذكر اسمها، غاب عني كما راح مني اسم السيدة، كانت هادئة، تجد أنسها في حضور هؤلاء الذين لا تربط بينهم صلة واضحة، قال الدكتور إنه يعرف بعضهم ويري الآخرين لأول مرة، جري نقاش حاد بين شاب منحن، يدخن بشراهة، والصحفي صاحب الصوت البعيري، تدخل عند مرحلة معينة أحد الحاضرين، أشيب الشعر، عندما جاءت صاحبة البيت بالطبق الرئيسي، بطاطس مع اللحم الغارق في المرق، قالت إنها أعدته بنفسها قبل قليل، بعد انصرافنا أفضي إليّ الدكتور بما بدد تساؤلاتي، هكذا الحال يومياً، تدعو من تعرفهم ومن يجيء من ناحيتهم إلي العشاء، الغريب انها لا تشارك في الحوار، ترقبهم، تعمل علي خدمتهم، بعد انصراف آخرهم تمسك مقود الكلب وتخرج إلي الشوارع الخالية. قال الدكتور إن حبيبها مصري، أستاذ في جامعة اقليمية لا يذكر اسمها وربما حاشه ليبقي علي غموض متعمد يهوي إضفاءه علي الأشياء يجيء كل أربعة شهور تقريباً، ملابسه في الدولاب عندها، عندما يصل تتوقف عن دعوة الآخرين، لا يتردد عليها أحد، يقيمان أياماً لا يخرجان إلا لتناول العشاء في أحد المطاعم القريبة، التفت إليّ، قال إنه عفي جداً، إنها ترسل إليه بطاقة الطائرة وتكفله تماماً، لم أشأ أن أستفسر أكثر، استعدت ملامحها الهادئة، المتناسقة، عندما قمت لأدخل إلي المطبخ مبدياً الهمة لأساعدها في نقل الأطباق، قالت شيئاً هذا ما بقي عندي منها، أما بيتها فلا يمكنني أن أتعرف عليه، حتي لو مضيت إلي المنطقة التي أعرفها في مجملها وليس في تفصيلها، يطوف الدكتور بمعارف كثيرين، معه رأيت الفيلسوف.
فيلسوف السوربون
اعتاد الدكتور أن ينتظرني عندما يعلم بوصول صاحب مشترك ينبئه، كنت أخرج من صالة الوصول بأورلي لأجده وبصحبته متوسط العمر، ضخم الجسد مرتدياً حلة كاملة، نتجه إلي موقف السيارات، الدكتور مثلي لا يعرف القيادة، قدمه إليّ باعتباره »الفيلسوف«، جاء لدراسة الدكتوراة في السوربون، غير أن الموضوع طول شوية، يبدو أن الحياة الثقافية الباريسية استهوته، في الساحة الشهيرة المواجهة للمدخل الرئيسي للجامعة مقهي قديم، يجلس فيه جاك دريدا، وجان لوك نانسي، يلتف حولهما المريدون والطلبة والمحبون، يبدو أن هذه الجلسة أصبحت بديلاً لكل ما يمكن أن يقوم به، أصبحت غاية في حد ذاتها، اكتفي بها، يكفي أنه يقول لصحبه: بالأمس قلت لدريدا، أو قال لي دريدا وهو يجلس علي المقهي، أكثر من ذلك مع زوجته، وفي أحد الأيام لطمت، أقدمت علي ما لم تتصور أنها ستفعله يوماً ما، أن تلطم خديها مثل النساء اللواتي كانت تجري عليهن الأبحاث في بولاق والجمالية وجزيرة الوراق، قالت باكية إن الجوع دهمها، لن يشبعا من ذكر دريدا أو بيوك أو نانسي، خاطبته مباشرة كلما رأت امرأة تزعق في وجه زوجها يوماً: شوف لك شغلانة.. ابنك نام جعان امبارح.
في هذه الليلة لم يطق نفسه رغم أن ردود فعله بطيئة، كان أشد ما يغيظها جلوسه في المقعد أمام التليفزيون بجسده الضخم، ولغده المتدلي تحت ذقنه، نظره محملقاً بثبات، أحياناً ينام ولا يستيقظ إلا في الصباح، لا يبدل مكانه، سكونه يقضها، ثقله يقلقها، لا يبدي أي فعل لخدشها نفسها، أو زرزتها حتي بلوغها حد التكوم فوق الأرض منهارة علي مرأي من ابنهما الذي لم يتم الثامنة بعد، يجيء مخضوضاً، يحيطها بذراعيه، يملس عليها، يقبلها علها تكف عن النهنهة ونعي بختها وميل حالها، هي أستاذة العلوم السياسية، حاملة الدكتوراة بمرتبة الشرف الأولي، ليتها لم تصحبه في بعثته التي حادت عن طريقها، لم تتم، تقلب في أعمال عديدة، لا تعرف إلا القليل منها، مثل وقوفه في المكتبة العربية القريبة من المدرسة العليا، كان يرشد طلاب المدارس العليا إلي المراجع، ذاكرته مرهفة، تحتشد فيها العناوين مقترنة بأسماء المؤلفين، بتواريخ الطبعات، كما يحفظ الأماكن التي توجد فيها المخطوطات النادرة، حتي انه يعرف ما يفوق محتويات كتاب بروكلين متعدد الأجزاء، كذلك فؤاد سزكين، وبهما آلاف العناوين لما حوته مكتبات العالم من نوادر مخطوطة. ويقال إن أحدهم اقترح عليه تأليف كتاب عن المخطوطات التي لم يذكرها بروكلمان وسزكين، عرض عليه مقدما ماليا، لكنه لم يفعل ، غير أنه انتفض غاضباً مرة، يشهد علي ذلك صاحب المكتبة فلسطيني الأصل، جاء إليه طالب من بلد عربي ثري، فتح معه مفاوضة في أن يعد رسالة ماجستير مقابل خمسة آلاف يورو كاملة تدفع علي مرتين، أثار العرض حنقه ويبدو أن صاحب المكتبة اتخذ قراراً بفض العلاقة، السبب فيما يبدو لحظه من تناقض بين استكانته وخموله وتلك الغضبة الجارفة التي جعلت الطالب العربي يجري بأقصي سرعة قبل أن يلحق به ويتمكن منه، بالطبع صاحب المكتبة رغب إتمام الصفقة انتظاراً للهدايا والفرص الاستثنائية، نفس يوم مفارقته لعمله المؤقت هذا التقت امرأته الدكتور في مطعم افتتحته سيدة حلبية بضاحية ايفري التي يسكنان قربها، ملامح الدكتور تبعث علي الثقة، لا يعرف أحد عنه علاقة بأنثي ما، زوجته التي تشغل منصباً مرموقاً في منظمة اليونسكو لا يعرف أحد توصيفه بالضبط تظهر بصحبته أحياناً، ترافقه إلي مقاهي يلتقي فيها المصريون المقيمون بدون تصريحات شرعية، يعملون في أسواق الخضار وأعمال النقاشة والمطاعم الصغيرة، ومقاهي شرقية بدأت تنتشر وتقدم الشيشة، أحياناً تجيء فتاة مغربية أو جزائرية لزيارته، تعرف علي بعضهن وشرع في إنتاج مسرحية »الفرافير« ليوسف إدريس، أجري عشرات التدريبات في مسرح المركز الثقافي الجزائري، استنطق الذين لم يعرفوا التمثيل من قبل، أظهر كوامنهم، أطلق عليهم أسماء مغايرة، العمدة، جيزة سبعة وسبعين، البريمادونا، السقا، الخلوتي، وهكذا، الغريب أنهم اعتادوا مناداة بعضهم بما نطق به حتي انهم نسوا أسماءهم الأصلية، كشف عن مواهب حقيقية يمكن أن تلمع لو قُدر لها الظهور والانتشار، غير أن الأمر اقتصر علي البروفات لا غير ولم يقدم العرض حتي علي خشبة المركز، عاينت صلته الوثيقة بالشباب المهاجر، الحق انه كان يبذل جهداً لمساعدتهم، لكن الوقت الطويل الذي يخصصه لهم دفع البعض إلي الهمس بأنه يوطد الصلة لمعرفة أحوالهم وإبلاغها إلي جهات ما، ربما تكون مصرية، وربما فرنسية، لم يخف صلاته بجهات خاصة في مصر، كثيراً ما يذكر تفاصيل دقيقة عن كواليس السياسة ودقائق الأمور وأقوال منسوبة إلي صفوت الشريف وفتحي سرور وأحياناً جمال مبارك أو الرئيس نفسه، كان يجري اتصالاته بالهاتف، لا يغادر بيته قبل الحادية عشرة، يتجول عبر الانترنت ويبعث برسائله الالكترونية، ثم ينزل من بيته الذي لا أعرف أين يقع ولم يحدث قط أن دعاني إليه، كما أنه لم يقص أي تفاصيل عن زوجته التي يناديها بلقب الدكتورة. التقيا في بلجيكا، أمها هولندية وأبوها فرنسي، كلاهما من عائلتين أرستقراطيتين، مرة قال انها ترجوه ألا يموت حتي لا يتركها وحيدة، ليس لها أحد علي الإطلاق، لم ينجبا، لم يذكر شيئاً عن حياته في مصر التي لم يعد إليها منذ خروجه منها في نهاية الستينيات، يبدو أنه لا يفكر في النزول إليها، ولو لأيام معدودات، سيبقي هائماً هكذا يحيطه الغموض، عمله الدائم غير واضح بالضبط، أحياناً يخرج أوراقاً بينها جواز السفر المصري الأخضر، مؤكداً في مناسبات وأحوال أخري أنه لن يحصل علي جنسية أخري رغم سهولة ذلك، لم أسأله عن غيابه المتصل، واضح أن سبباً قوياً يحول بينه وبين العودة، جلي أيضاً اتصالاته المتعددة ومعرفته بأدق أخبار الحياة السياسية والاقتصادية، يرويها كأنه يعيش في القاهرة، لكن حكيه جاف بعكس استدعائه لوقائع عاينها منذ الستينيات، يفيض حيوية إذ يبدأ، غير أنه أحيانا ينسي فيقص بعض الوقائع مرة أخري بنفس الصيغة، التفاصيل، ثمة واقعة اعتاد أن يرويها بعد خروج التكسي من منطقة المطار ودخوله إلي الطريق السريع، يبدأ فجأة معرباً عن قلقه، الكلب النادر الموجود في البيت بإيطاليا يسبب مشاكل لهما عند السفر، كل اجازة تنتهي بآلام، زوجته متعلقة به، الكلب ينوح حتي انه لا يتحمل، تفارقه مرغمة بعد إيداعه فندق الكلاب، يسكت لحظة ثم يقول: بيكلفنا الشيء الفلاني، في كل مرة يتخذ نفس الوضع، يحدق إلي نقطة غير مرئية في الفراغ، درجة الصوت، استمعت إليها ثلاث مرات، عندي الكثير مما يمكن أن أرويه عنه غير أنني أقصر خشية الإيفال فيما ينأي بنا عن السياق، غير أنني أتم ذكر لقائه بزوجة الفيلسوف، قالت إنه استسلم لندوات المقاهي، ولقاء المشاهير، وبين الحين والآخر يدير اجتماعاً أو مناقشة لكتاب، ذروة سعادته عندما يشير إلي الكتب المرصوصة والتي ورد ذكرها في المناقشات، يدعو الحضور لتصفحها والحصول علي ما يرغبونه، طوال ثلاث أو أربع ساعات ينتظر هذه اللحظة ليتألق ويخف ويشف، يخرج إلي الطريق حاملاً حقيبته التي تمتلئ بأوراق يجهلها هو، يصفر بعض الأحيان، لا يفكر في بيته، لا امرأة ولا طفل، كأنه خلو، يرجح يدا وراء وأخري إلي الأمام، يغطس في المقعد الوثير أمام التليفزيون، يقلب المحطات، ، عندما فاض بها الحال وطهقت، اقترحت عليه أن يسوق السيارة الخاصة بزوجة الدكتور، المركونة تحت البيت، يندر خروجها، في البداية فتح فاه مستنكراً، مستفزاً، لكن بعد أن بسطت أمامه الأحوال، الجوع يؤلمها وليس لديها ما تقدمه إلي ابنها، أفاضت وذرفت دمعاً، في النهاية قدم إليها الدكتور مائتي يورو وأبدي موافقته علي قيام الفيلسوف بقيادة العربة للدكتورة، ومصاحبته في مشاوير المطار، قال لي مرة إنه لا يفضل الارتباط بسائق إذ انه سيصبح جزءاً من حياته بعد حين، عنده قصص لا نهاية لها عن تدخل السائقين في أدق التفاصيل، إنه يفضل عربات الأجرة، خمنت انه يحتفظ بسرية حركته، أول مرة رأيت الفيلسوف يقود العربة، سويدية الصنع، ظننت أنها ملكه، لا أدري كيف عرفت وضعه، ربما من الدكتور نفسه، أو أحد المحيطين به.
جيزة 77
علمت أن الزوجة نجحت في العودة إلي القاهرة، بصحبة ابنها وأنها بدأت اجراءات الطلاق، الدكتور غاب عن الظهور، أخبرني جيزة77 أنه رآه آخر مرة بصحبة كاسترو أحد الشحاذين الذين كان يطوف عليهم ليلاً أو في الصباح الباكر يتبادل معهم أحاديث خافتة وأحياناً يجلس إلي جوار بعضهم وينهمك، كأنه مسئول عن شئونهم بشكل ما، أكد جيزة أن علاقته بمعظم المصريين انقطعت، ربما لتفرقهم، كل واحد مضي يشوف حاله، وربما لشكوك قوية تحوم حوله، وتدخله السافر الثقيل في شئون البعض وإصراره علي معرفة كل شيء عن الأشخاص ومعارفهم مما أزعج البعض ونفروا منه، يواتيه بين الحين والحين مرتدياً معطفه حتي في شهور الصيف، يمشي في شوارع الحي اللاتيني، متجهاً إلي أحد الفنادق الشهيرة للقاء شخص ما، ظهوره في بعض المراكز الثقافية، يدعو صحبه إلي الغذاء أو العشاء، نادراً ما يمد يده ليأكل لقمة، فقط يتظاهر، لكنه يحتسي القهوة الاكسبرسو علي مقهي الرحيل المطل علي السين، مقعده معروف، سائر الجرسونات يتهللون لرؤيته، يفسحون له، يتقدمونه ويبدون له العناية، أحياناً يتحدث إليهم لدقيقة أو اثنتين، هذا وقت طويل بالنسبة لمقهي سياحي، رئيسي في منطقة كهذه، يستعيد صمته، استغراقه، غموضه يسدل ستائر علي خصال تبدو جيدة، منها كرمه، وشفقته، والهمة في المساعدة، خاصة المرضي والذين جاءوا بزاد يسير، الفيلسوف التقيته صدفة، نفس الحلة الرمادية ورباط العنق، لكنهما اتسخا وتهدلا، أما عيناه فالغالب عليهما اللون الأحمر الأغبش، كان ذلك في الصباح الباكر، دعوته إلي فنجان قهوة في مقهي قريب من السوربون، راح يقص عليّ تاريخه وارتباطه بالاشتراكيين، المرة الثانية بعد الظهر، كانت نفس الحلة لكنها نظيفة، مهندمة، فقط ياقة القميص التي تشي بإهمال، قال إنه في الطريق لإدارة ندوة بمكتبة تتبع دار نشر متخصصة في الإسلام، كان نشيطاً، يفيض حيوية، استعدت سعادته بإدارة الحوار ونشوته البادية عندما يشير بأصبعه إلي الكتب المعروضة داعياً الجمهور الراغب في الاقتناء أن يتقدم، لم أر الفيلسوف بعد ذلك قط، غابت عني أخبار الدكتور، حتي معارفنا المشتركين لا يعرفون شيئاً عنه، التقيت أحدهم أثناء عودتي من باريس في الطائرة، كان قريباً منه، يرافقه ليلاً، أخبرني أنهما لم يلتقيا منذ عامين فأدركت أن وقيعة جرت، لم أسأل عن التفاصيل، لا أدري الآن من أخبرني بهجرته إلي تايلاند واستقراره هناك، يطل عليّ عبر الذاكرة، مرة يمشي في الشارع مطرقاً، مقطباً، يداه في جيبي معطفه الذي يرتديه شتاء وصيفاً، توقفه عند الشحاذين الذين يتخذون مواقع ثابتة، يتحدث إليهم بمستوي خفيض من الصوت، يطلق عليهم أسماء من عنده، فهذا كاسترو، والآخر غاندي، وثالث يناديه بمونتوجمري، عندما يفضي بما يعتبره سرا ما حول سياسة الحكومة أو دخائل الكبار في القاهرة يوحي بسرية مصادره، دائم التلميح إلي مهام خاصة جداً استدعت بقاءه طوال تلك السنوات، لم أنطق السؤال الذي تردد مرات عندي: لماذا لم يعد إلي مصر ولو في زيارة؟ الغريب أنني متأكد من رؤيته في فيلم ما رأيته يوماً، كأنني لم ألتق به في الواقع.
من ديوان الشعر العربي
شعار الفتي ذم الزمان الذي أتي
ومن شأنه مدح الزمان الذي مضي
ابن الرومي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.