اليوم أواصل ما كنت بدأت من تعرض لملف غياب الرؤية والمشروع في أداء وزير الخارجية الحالي السيد محمد كامل عمرو، رغم اعتلائه قيادة مؤسسة من أعرق هياكل الدولة المصرية، وأغناها بالكوادر البشرية المتميزة والمتمكنة. وبعد أن عرجت بسرعة علي ملف العلاقات مع الصين، وأنموذج الرابطة مع دول الثورة العربية في شمال افريقيا (تونس وليبيا).. ثم بعد تكراري مرارا أن مفهوم السياسة الخارجية الناجحة لا يرتبط بالانتقال العصبي للوزير هنا وهناك، موحيا بالحركية النشطة، راكبا طائرة، ومتصدرا التقارير التليفزيونية الاخبارية، ومصرحا ببعض العبارات التقليدية غير ذات المعني، وإنما السياسة الخارجية هي مفهوم يتعلق بالرؤية الاستراتيجية التي تأتي تلك الحركية في اطارها، كما تعني المقدرة الخلاقة والمتواصلة علي تقديم المبادرات واستغلال عناصر قوة الدولة السياسية، والتي ليست بالضرورة مالية أو اقتصادية (وبالذات في الحالة المصرية).. وقبل أن أتعرض بتفصيل عن الاقتراب من المتغير الروسي في السياسة الخارجية المصرية، أذكر عاملين خطيرين هيمنا علي عقل صانع القرار المصري، وأديا تلقائيا إلي تحويل العلاقات المصرية الروسية إلي ساحة للمناورات، بأكثر منها نقطة تلاق للمصالح وهما: أولا: هناك ميراث تاريخي تقليدي ثقيل في العلاقات المصرية الروسية إبان الدولة السوفيتية (تعاونا عسكريا وتقنيا وتنمويا في الستينيات .. وصراعا في السبعينيات سببه الانتقال الانتهازي إلي الارتماء في أحضان الولاياتالمتحدة والغرب مع التذرع بممانعة موسكو في إمدادنا بأصناف سلاح بعينها، أو بأن ارتباط مصر بالغرب يعني التحاقها العالم المتقدم والحياة الرغدة الخلابة). هذا الميراث فيما يبدو مازال يحكم نظرة الخارجية المصرية إلي العلاقات مع موسكو رغم عشرات المتغيرات الجذرية التي لحقت بروسيا وخلقت منها كائنا دوليا مغايرا تماما للصورة التي تعودنا بناء تقديراتنا علي أساسها. وبالاضافة فإن تجارب سابقة خشنة برهنت لمصر علي أن حلفاءها الجدد لن يسمحوا لها بتوسيع نطاق علاقاتها بموسكو عن نطاق قدرهُ أولئك الحلفاء.. وقد حاولت مصر أحيانا في نزوات أو حماقات مكايدة الغرب وإغاظته واشعاره بعدم الاطمئنان إليها عبر التلويح بالتقارب مع موسكو بما دفعه إلي ممارسة ضغوط علي سيادتها واستقلالها، إذ من الصعوبة بمكان النجاح في ذلك التملص بعدما ارتمت مصر بالكامل في أحضان الغرب تحت ظلال المقولة الساقطة: (99٪ من أوراق الحل في يد أمريكا).. نعم وجدت مصر ردعا زاجرا من الغرب ربما كان أبرز أمثلته محاولة مصر في بدايات عهد الرئيس السابق الإلتجاء إلي روسيا في عمليات التجديد والاحلال لتوربينات توليد الكهرباء في السد العالي، وهو الأمر الذي نهرتها واشنطن بسببه مرغمتها الاعتماد علي »جنرال اليكتريك« الأمريكية في القيام بتلك العملية.. وبالطبع كانت واشنطن تستخدم (علانية) في وصف مثل تلك التقلصات لغة ناعمة لها ملمس القطيفة تتحدث عن أولوية التعاون بين مصر والولاياتالمتحدةالأمريكية علي أية أولويات تعاون دولي أخري وهكذا بالضبط حدثني مايكل جادبو نائب رئيس مجلس إدارة جنرال اليكتريك في واشنطن عام 1002 حين ذكرته بواقعة تجديد التوربينات!! ثانيا: الخلل الآخر الذي استجد في تصورنا عن مفهوم العلاقات بين القاهرةوموسكو كان بفعل أحداث ثورة يناير في مصر! إذ تصور المصريون جميعا وليست وزارة الخارجية وحدها إن الاشادات (الصوتية) التي جاءتهم من واشنطن والغرب عن ثورتهم (السلمية الحضارية الشبابية) هي دليل مساندة كاسحة سوف يتلقونها من حلفاء الثورة وراء البحار، كما دعم هذا الاعتقاد ورسخه السفريات المتواصلة لبعض شباب الثورة إلي واشنطن وتكريمهم (صوتيا كذلك).. إذ صرفت تلك الظاهرة المحدثة من الذهن المصري الجمعي فكرة الاحتياج الوطني لسياسة خارجية متوازنة تمارس اقترابات متنوعة من الكتل الدولية الكبري في عالم اليوم بغية تعظيم المصالح الوطنية، والاستثمار الناجح في مجال العلاقات الدولية. والحقيقة ان كل هذا التصور علي بعضه هو محض كلام فارغ، لأن أمريكا ودول الغرب لا ينطلقون من أرضية مواقف مبدئية أو أخلاقية، أو من أجل نصرة الشعوب المنتفضة بحثا عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما كل هذا حين نتحدث عن السياسة الخارجية هو مجرد ظواهر صوتية، ودليلي علي ذلك يرتبط بروسيا نفسها، وهو حجم ما تحصله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تأييد الغرب (فيما هو من عناصر تسمي SILOVIKI وكانت تعمل في الجيش والأمن والمخابرات قبل انخراطهم في السياسة التنفيذية)، وسجله في تقويض الديمقراطية معروف منذ عمله في لجنة مخابرات الدولة (كي.چي.بي) بالاتحاد السوفيتي سابقا، ودراسته عام 4891 في أكاديمية الراية الحمراء التابعة ل كي.چي. بي ومدرسة المخابرات الأجنبية، ثم سحقه لتمرد الشيشان خلال رئاسته الأولي للوزراء عام 9991 في عهد بوريس يلتسين، وقمعه الفوضوية التي سادت في عهد الزعيم الروسي الأسبق، وضغطه علي بعض الجمهوريات الروسية التي طالبت بالحكم الذاتي ثم ان بوتين هو رمز من رموز مؤسسة فساد لا تخطئها العين بامتلاكه حصصا بالغة الضخامة من أسهم ثلاث شركات كبري للبترول والغاز، فضلا عن سيطرته الكاملة علي شركة (غازبروم) التي تحتكر التجارة والتصدير في الغاز محليا ودوليا (وقدرت مجلة ايكونوميست منذ سنوات حجم ثروته في بنوك سويسرا وإمارة لينشتاين بأربعين مليار دولار!) ثم انه صاحب أعجب اختراق للتقاليد الديمقراطية حين تولي رئاسة روسيا (0002 8002) علي فترتين، واستغل فرصة وجود نص في الدستور يتيح له الترشح من جديد بعد فترة فاصلة، فأتي بصديقه ديمتري ميدفيديف (الذي كان رئيسا لشركة غازبروم) لكي يصير رئيسا للدولة فيما أسميته أنا لعبة الثلاث ورقات الروسية، إذ كانت الورقة الأولي هي دخول بوتين إلي الانتخابات البرلمانية بحزب (روسياالمتحدة) عام 7002 متحصلا أغلبية الثلثين في البرلمان الروسي (الدوما) بما أتاح له السيطرة علي واحد من أكبر مفاصل الدولة. ثم كانت الورقة الثانية هي ترشيح أحد ثقاته والمقربين منه لمنصب الرئيس، وحدث ذلك فعلا بتولي ديمتري ميدفيديف، أما الورقة الثالثة فكانت تولي بوتين لمنصب رئيس الوزراء مع توسيع صلاحيات المنصب لتلائم رئاسية بوتين، وبحيث أصبح الرئيس ميدفيديف عروس يد Hand-pupet لبسها بوتين في يده، وذلك حتي عاد بوتين رئيسا من جديد هذا العام (ولمدة ست سنوات هذه المرة بعد تغيير القانون). كل هذا ولم تعترض واشنطن أو الغرب علي بوتين، وحتي حين ناوش رغبة أمريكا في نشر الدرع الصاروخية في التشيك وبولندا، فإنهم لاعبوه (علي الضيق) في أوكرانيا وجورجيا، ولكن ذلك لم يتطور إلي موقف مباشر وشامل من بوتين وروسيا.. أقول ذلك ليفهم السياسيون الجدد في مصر أن موقف أمريكا والغرب (الصوتي) من الثورة المصرية، ومبادئها في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ليس مبدئيا في مساندة النظام المصري الجديد، فهم يصفون إلي جوار ما يحقق مصالحهم فقط، حتي لو كان نظاما أمنيا، سلطويا، فاسدا كذلك الذي يحكم روسيا. ....... كانت تلك الفذلكة ضرورية قبيل بدء التعرض لموقف مؤسسة السياسة الخارجية المصرية من المتغير الروسي وأضرار عدم وجود رؤية استراتيجية تتعلق بالاقتراب من موسكو أو التمنع عنه.. إذ لو كان النظام الروسي بعيدا عما ننادي به من مبادئ فليس ذلك مبررا للنأي عن التعامل معهم، إذا كان ذلك التعامل محققا للمصالح الوطنية المصرية، كما ليس هناك ما يبرر ابتلاعنا الساذج لفكرة أن الغرب يؤيد مبادئ الثورة والتغيير في مصر، لأنه عمليا دعم نظام بوتين لسنوات بما جعل مجلة (تايم) تختاره منذ سنوات (شخصية العام) وتضمه إلي لائحة طويلة من الأسماء عبر سنوات عمرها الثمانية والثمانين مع هتلر وستالين والمهاتما غاندي وألبرت اينشتاين ومارتن لوثر كنج وجورباتشوف وأنور السادات. وقالت المجلة ذائعة الصيت ثقيلة العيار في سردها لحيثيات اختيارها أن تكريمه لم يك لسجله في تحقيق الديمقراطية، ولكنه كان لدوره في تحقيق الاستقرار وحماية بلده من الفوضي.. وهكذا أيدت واشنطن (بعد ذلك الاختيار بسنوات خمس) تولي بوتين الرئاسة من جديد، حتي مع تواصل وقفات الاحتجاج في ساحة بوشكينسكايا وسط موسكو، ورغم أقوال تناثرت في كل مكان تؤكد تزوير الانتخابات! وأواصل في الأسبوع المقبل.