في إطار تحديدنا للملامح الخمس الرئيسية للتراث الزيتوني انتهينا من ذكر الملمح الاول وقمنا بذكر بعض من الملمح الثاني. ونواصل القول بأن الملمح الثاني تمثل بشكل أكبر في قيام خريجي الزيتونة بصياغة الوعي الحداثي التونسي في المقام الاول. فشاهدنا في العصر الحديث عددا من الشعراء الفطاحل من أبرزهم: أبو القاسم الشابي صاحب "إرادة الحياة"، وكتاب "الخيال الشعري عند العرب". وعدد من المفكرين والمصلحين والزعماء السياسيين والنقابيين أمثال الطاهر الحدّاد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، والذي ولد بتونس سنة 1899. درس بالزّيتونة وتحصّل علي شهادة التّطويع. أطرد سنة 1919 من امتحان شهادة الحقوق لآرائه ومواقفه التي كان يعتبرها المحافظون مناقضة للإسلام ، انضمّ إلي الحزب الدّستوري التّونسي فور تأسيسه سنة 1920 وساهم مع محمّد علي الحامّي (1894-1928) في بعث أوّل حركة عمّاليّة تونسيّة مستقلّة عن النّقابات الفرنسيّة. أصدر كتاب "العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة" سنة 1927 وأصدر سنة 1930 كتاب "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع" فاضطهده شيوخ الزّيتونة والمحافظون والمغرضون، فاعتزل إلي أن توفّي في 7 ديسمبر 1935. كما صدر له سنة 1975 - عن الدّار العربيّة للكتاب - كتاب بعنوان " خواطر" . والشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي تجاوزت شهرته البلاد التونسية صاحب كتاب "روح التحرر في القرآن" وغيرهم كثير. في عبارة ثانية، إصلاح التعليم في الزيتونة كان هما رئيسيا للنخبة الثقافية بل ان الاصلاح المدني بشكل عام في البلاد اخذ من اصلاح الزيتوني ،في بعض الاحيان ، رأس حربة له. اما الملمح الثالث، فيمكن تحديد دور الزيتونة في خلق حدود ومجالات التنوير في صمود الزيتونة في الدفاع عن المذهبين المالكي بشكل رئيسي والحنفي بشكل مساعد، اللذين كان يدرس من خلالهما الفقة واصوله. وبلغ الدفاع مبلغه في رد علماء تونس علي الوهابية عندما قام داعي الوهابية بارسال خطاباته الشهيرة :"اسلم تسلم" ، بشكل لا يقدر إلا أي مذهب في الفقة ولا يحترم مذهبا آخر إلا المذهب الحنبلي وفروعه وفق فهم ابن تيميه بنواحيه الالهية والتشريعية. في هذا الوقت كانت تونس اياله تابعة للباب العالي والباي هو ممثل السلطة العثمانية. راي الزيتونيين في الدعوة الوهابية اهدار للتاريخ الشعبي التونسي، من ناحية، واجحاف بالتناغم بين انماط فهم الطرق الصوفية والاسلام الرسمي وخاصة المالكي والحنفي منهما من ناحية ثانية. كانت تونس في هذا الوقت تموج باثار نابليون، بل وترجم الدستور الفرنسي لسنة 4179 وسري في الوعي الزيتوني ضرورة وجود قانون مماثل. قام محمد بيرم بصياغة مشابهة له آخذا فهما مختلفا للحدود الشرعية في رسالته الموسومه :"السياسات الشرعية". بعبارة اخري، كانت الوهابية غير صالحة للتطبيق والانتشار في اماكن عدة في العالم الاسلامي حتي أنه كان منها شعاب من جدة ومكة بسبب اختلاف المستوي الحداثي للمجتمعات المستقبلة عن نجد منشأ الدعوة الوهابية. في قول ثالث، ان الجدال التنويري الزيتوني ظهر في الاعتراف بالاحتياج الاجتماعي المتبادل بين الانماط المختلفة لفهم الاسلام والذي عمل الكثير من علماء الزيتونة علي فهمه في سياق الوجوب الموسع ومقاصد الشريعة فقهيا وهذا سوف نفصل فيه بشكل أكبر عند الحديث عن السؤال الثاني المتعلق في البحث في بناء الفرص التاريخيه لاصلاح العلاقة بين الدين والسياسة بحيث لا يتم استعمال احدهما كشرط للاخر او مبرر له. اما الملمح الرابع ، بزوغ شخصيات صاغت هذا الجدل في مسائل فقهية مثل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير "التحرير والتنوير" والذي سنفرد له تحليلا خاصا في الجزء المعين بالسؤال الثاني في فهمنا لمنهجية التنوير المقارن في الدول العربية. علي اية حال ولد الشيخ عاشور بتونس سنة 1879 في أسرة علميّة عريقة، تخرّج سنة 1896 من الزيتونة والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق. اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة 1900 وكان لهذه التجربة بين الزيتونة ذات المنهج التقليدي والصادقية ذات التعليم العصري المتطور أثرها في حياته ، إذ فتحت وعيه علي ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودون آراءه هذه في كتابه النفيس"أليس الصبح بقريب". عيّن الطاهر ابن عاشور نائبا أول لدي النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة 1907 فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية وادخل بعض الإصلاحات علي الناحية التعليمية. كما أختير في لجنة إصلاح التعليم الأولي بالزيتونة سنة 1910 وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية سنة 1924 ثمّ اختير شيخا لجامع الزيتونة سنة 1932 فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذا المنصب و منصب شيخ الإسلام المالكي، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة ليعود إلي منصبه سنة 1945 وفي هذه المرة ادخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين وازداد عدد المعاهد التعليمية. وبعد استقلال تونس، أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة 1956. واستمر نشاطه كعالم مصلح مجدد إلي أن توفي سنة 1973.. ونواصل التحليل.