وسمع يوسف بن يعقوب هاتفا: أخرج مريم من الدير فالقوم يأتمرون بها السبت: كان عثمان احمد عثمان شديد الحب والتقدير للصحفيين.. كان يحلو له ان يدعوهم علي فنجان قهوة وعصير ليمون بمكتبه بمقر شركة المقاولون العرب بشارع عدلي بوسط القاهرة وذلك في اواخر حياته وبعد ان نفض يده تماما من اي اعمال خاصة بالشركة.. كنا نلبي دعوته ونستمتع بالجلوس معه او مع ذكرياته الكثيرة، كثرة مشروعات الشركة التي ملأت مصر والدول العربية والخليج عن طولها وعرضها. واتذكر من ذكريات »المعلم« كما كان يناديه الكبير والصغير في الشركة وهو مهندس صغير وهو في اعلي المناصب فقد كان هذا اللقب حبيبا الي قلبه حيث كان المعلم او الكبير.. كبير الشركة وكبير العائلة يعيش مع العمال في مواقع عملهم يأكل معهم و»يحبس معهم بالشاي«.. اتذكر »شهادة الفقر« التي انقذت مستقبله وكانت الباب الذي فتح الطريق امامه علي مصراعيه ليصل ولتصل معه »المقاولون العرب« الي ما وصلت اليه من شهرة وخبرة في عالم المقاولات.. المعلم مات ابوه وهو في الثالثة من عمره وبكل صلابة الرجال واصرارهم وعزمهم تحملت امه مسئوليته مع اخوته وتولت تربيتهم علي احسن ما يكون وضحت بكل شيء.. بالزواج وهي في ربيع العمر وبالحلي وبالبيت وبكل ما ورثته عن عائلتها.. وكانت تتمني ان تري عثمان طبيبا ذائع الصيت، اما هو فكان يتمني ان يكون مهندسا ليعمل بالمقاولات، عشقه الذي ملأ عليه حياته.. مستقبله الذي تمناه مقاولا متعلما.. تشرب ذلك من اعجابه بخاله الشيخ محمد حسين.. الذي تعلق بفكره وخواطره.. وتحول الاعجاب الي رغبة.. الي أمل.. الي هدف سيطر علي كل تفكيره واصطدم كل ذلك برغبة امه في ان يصبح طبيبا.. لم يكن له او لاخوته مجرد التفكير في مخالفة امهم فرغباتها اوامر بقدر ما اعطتهم من حياتها وضحت بالغالي والرخيص وتقدم الي كلية الطب وتبخرت كل احلامه.. لكن الأمل عاش مسيطرا عليه واستخدم كل الوسائل حتي اقنع امه بتحويل اوراقه الي كلية الهندسة وكانت فرصة عمره التي كادت ان تموت في مهدها حين سأله مسجل الكلية اين المصروفات والرسوم المقررة؟ كم؟ أربعون جنيها.. انني لم ادفع رسوما في حياتي بسبب تفوقي لكنك لم تحصل علي المجموع الذي يعفيك من الرسوم: وكان اما ان يسدد الاربعين جنيها واما يضيع حلمه في الالتحاق بكلية الهندسة واسودت الدنيا في وجهه وهم بالانصراف يملأه اليأس ويسيطر عليه الحزن، لكنه سأل المسجل أليس من حل؟ اجاب شهادة فقر ولا غير ذلك، ما معني ذلك؟ الم تفهم؟ اريد شهادة تثبت انك معدم وقال ذلك علي مسمع ومشهد من زملاء تقدموا الي الكلية والمصروفات تملأ ايديهم وجيوبهم وكانت صدمة قاسية.. انها كأس كلها مرارة وعليّ ان اتجرعها حتي لا تتبخر أحلامي وتتطاير أمالي ويحترق مستقبلي امام عيني.. وسألت عن شهادة الفقر وعن كيفية الحصول عليها حتي اعددتها وقدمتها الي مسجل الكلية الذي قبل اوراقي، ويسرح »المعلم« قليلا ثم يعاود الحديث الينا مع فنجان قهوة جديد طلبه لنحتسيه جميعا: صحيح المشكلة انتهت لكن ما حدث ظل فترة طويلة يهز كياني بعنف.. كان اصرارنا علي مصارعة الزمن ينسينا الواقع المر الذي نعيشه.. لقمة العيش لا يغري الحصول عليها لكن يرهب الحرمان منها.. ادركت ولاول مرة- ماذا يعني الفقر- ألم يجدوا جملة اخري يعبرون بها عن حالة الذين يعانون من ضيق ذات اليد مثلي سوي شهادة سموها شهادة فقر! ان هذه التسمية تمثل ابشع صور الفوارق بين الناس.. ان كل ما حققته من نجاح حتي الان لم يستطع ان يمحو هذا الاسم من ذاكرتي لكنه فجر داخلي بركانا من التحدي والاصرار علي تغيير الواقع المر الأليم.. وعلمتني شهادة الفقر هذه والتي كانت طعنة في كبريائي وهزت كياني علمتني كيف يجب ان يكون التحدي وكيف ألقي بالحقد خلف ظهري.. علمتني مبدأ مهما كان نبراسا في حياتي انه ليس هناك علي وجه الارض اقوي من رجل عاش من اجل فكرة. حمل مريم ورهبان المعبد الاثنين: شاهد رهبان المعبد امارات الحمل علي مريم، فأستنكروه، وساءهم ان تلوث المعبد من ظنوا انها انقي واطهر اهل الارض، انهم تخاصموا فيمن يكفلها، وقد كبرت بينهم لا تغادر محرابها الا لضرورة وهذا ما يقلقهم ويحيرهم واجتمعوا يتشاورون فيما يفعلونه بها، ورأوا ان يحاكموها فان ظهر فسقها رجموها كما تقضي شريعة موسي، وزكريا يذكر لهم ما رأي في محرابها ويذكرهم ببشارات الانبياء بالمسيح وان هذه التي يتهمونها- ظلما- هي الام المنتظرة، التي يترقب بنو اسرائيل وليدها.. ان زوجته ما حملت الا ببركتها ولولاها ما رزقه الله بيحيي واستمر في محاولته تبرئتها لكنهم اعرضوا عنه ووضعوا اصابعهم في اذانهم وقالوا: يدافع عنه لانه كفيلها ولان امها اخت زوجته »اليصابات« وجاء الليل ونام الرهبان ينتظرون الصباح ليحاكموا مريم ويرجموها، ودخل يوسف بن يعقوب الي فراشة لم تغمق له عين حتي هتف به هاتف: يوسف قم واخرج مريم فالقوم يأتمرون بها.. فهب من نومه واعد حماره وانطلق الي مريم واخبرها بما اوحي اليه وانطلقا في سكون الليل بجوار الاسوار الهائلة التي تبعث الرهبة في النفوس.. تلك الاسوار التي بناها داود حول المدينة المقدسة.. كانت الليلة شديدة البرودة وارسل القمر ضوءه ينير الطريق.. حتي اشرقت الشمس لتدفيء الاجسام التي اكتوت بالبرودة واستراحا قليلا عند بئر واستأنفا الرحلة حتي بلغا باب بيت لحم والنسر الروماني فوقه.. كانت ليلة شديدة البرودة والقمر في تمامه والنجوم تتلألأ وارتفعت نغمات مزمار لراع يرعي غنمه ليلا وتقفز الي ذهنيهما صورة داود وهو يرعي الغنم. واحست مريم آلام الوضع وتلفتت فوجدت حقلا منبسطا وفاجأها المخاض الي جذع نخلة فاحتمت به تضع ما في بطنها.. الريح تزمجر والبرد يجمد الاطراف ويوسف يقف بعيدا يمزقه الاسي، فمريم تضع أمل بني اسرائيل المرتقب في الخلاء ليس لها فراش الا الارض ولا غطاء الا السماء. وفجأة هدأت الرياح المزمجرة وهبت نسائم عبقة بالعطر النفاذ وتغير الجو فاذا الليلة الباردة تنقلب الي ليلة رائعة من ليالي الربيع وسقط من السماء نور باهر اضاء المكان وانبعثت ترتيلات ملائكية هزت نفس يوسف وجعلته ينظر وهو لا يدري اهو سابح في حلم من اسعد الاحلام ام هو يقظان؟ غشي النور ابصار الرعاة بالمكان ونظروا مدهوشين ومست اذانهم الاصوات الملائكية التي كانت تسبح خالق الكون، وتنبهوا الي ان المرأة التي التجأت الي الشجرة انما تضع مولودا مباركا له شأن عظيم لكن مريم يطوف برأسها خاطر عما قليل تنهض وعلي يديها طفلها فماذا يقول عنها قومها فحزنت وقالت: »يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا« وما ان وضعت ابنها ولامس الارض »حتي ناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا، وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فاما ترين من البشر احدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا« وحمل يوسف مريم ووليدها وانطلق الرعاة الي المدينة يقصون ما رأوه في الليلة العجيبة. وخرج ثلاثة رجال من فارس يرصدون نجوم السماء ليحدثوا به ملكهم.. كانوا علي علم بالنجوم وكان كل قرار للملك بنصحهم ورأيهم.. كانوا هم الملوك الحقيقيين.. يعلنون الحرب، ويقتلون الرجال ويوحون بالسلام.. هم القوة المحركة للبلاد يسيطرون عليها باسم العلم والدين.. تطلعوا الي السماء وقال احدهم: طلع الليلة نجم جديد.. نجم لم نره من قبل.. ولد الليلة ملك.. انه ملك اليهود.. الملك الذي جاء ذكره في التوراة، الذي سيرسله الله سلاما.. حقا هذا نجمه.. واين ولد؟.. هناك في ارض اليهود.. فلنخرج اليه نعلن تصديقنا به وايماننا بالله الذي ارسله وتجهزوا للرحلة الطويلة وحملوا هداياهم من فارس الي ارض اليهود للسؤال عن الوليد الذي بزع نجمه في المشرق.. ووصلوا صهيون.. انهم يرون القوافل غادية رائحة وساروا حتي رأوا سوقا واندسوا بين الجماهير يتنسمون اخبار المولود الذي رأوا نجمه في السماء وسمع الملك هيرودوس بأمرهم فأمر باحضارهم واخبروه عن سبب حضورهم الي هنا وسألهم عن الهدايا التي حملوها: لماذا الذهب والمر واللبان اخترتموها من بين الاشياء كلها؟ اجابوا: الذهب سيد المتاع كله وهذا النبي هو سيد اهل زمانه، والمر يجبر الكسور ويشفي الجروح وهذا النبي يشفي به الله كل سقيم ومريض، واللبان ينال دخانه السماء ولاينالها دخان غيره، وهذا النبي يرفعه الله الي السماء ولا يرفع احدا غيره، ويظهر في ارض اليهود لانه رسول الي بني اسرائيل.. انه ملك اليهود وينقبض هيرودوس ويطلب الكهنة فيخبروه عن مكان هذا المولود، ويخبروه: يولد المسيح- نبي بني اسرائيل- في بيت لحم مدينة داود.. ويتوجس خيفة ان يسلب هذا الوليد عرشه وتمني لو علم مكانه ليقتله ويستريح، وتكلف الدقة وطلب منهم البحث عنه واوهمهم رغبته التصديق به، فانطلقوا الي بيت لحم يبحثون دون جدوي وحين اقبل الليل فوجئوا بنجم النبي الموعود يسير في السماء كأنما يهديهم سواء السبيل وتتبعوا اثره حتي تلألأ فوق مكان متواضع كأنما كان يسير اليه فرددوا في فرح: انه في هذه الدار وتقدموا يشعرون برهبة ما احسوا بها من قبل.. كانوا يتقدمون الي الملوك في ثقة وجرأة وهنا يتقدمون خائفين وطرقوا الباب فاذا بصوت يدعوهم الي الدخول، وفي ضوء مصباح خافت تبينوا مريم جالسة وعلي ركبتيها ابنها الصغير تحيط به هالة من نور تقدموا نحوه فنزل بقلوبهم أمن وبهجة لان رحلتهم حققت ثمارها وقدموا لمريم ما يحملون من الذهب والمر واللبان وقالوا لها: جئنا حاجين، جئنا من فارس نعلن تصديقنا برسول رب العالمين.. ونام الرجال الثلاثة فرحين عازمين علي العودة الي هيرودوس ليحملوا اليه النبأ السعيد.. نبأ العثور علي المسيح ليؤمن به ويصدقه، ولم يخطر ببالهم ان الملك واهل بيته هم اعداء المسيح يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.. واستغرقوا في نومهم فرأوا من يهتف بهم: لا ترجعوا اليه ولا تخبروه بمكانه انه يريد قتله.. وعادوا الي بلادهم سالكين طريقا اخر غير طريق هيرودوس الذي يسعي الي القضاء علي رسول الله الي بني اسرائيل.. وتبدد حلم هيرودوس في القضاء علي المولود الذي يهدده ويهدد عرشه فاستشاط غضبا وثار وزمجر وهدد وتوعد.. فهو يعلم انه اغتصب العرش كان حفيدا لخادم في هيكل »اشكلون« واغتصب الملك يعاونه قياصرة الرومان المغامرين واخبره اليهود انهم لا يقبلونه ملكا عليهم فهو ليس من بني اسرائيل فأزهق ارواحهم حتي لا تتعاظم اعتراضاتهم واتي افعالا تتنافي مع الانسانية وصلة الدم واللحم امر بخنق زوجته الاميرة »مريمني« لظنه انها تحاول اعتلاء عرشه وقتل بعض اولاده حامت حولهم شكوكه انهم يتآمرون علي ملكه وسفك دماء من تنبأ بزوال ملكه.. ذبح كهنة ونبلاء.. ولما طال انتظاره ولم يرجع اليه الرجال بمكان الوليد امر- كما امر فرعون موسي من قبله- بقتل جميع الرضع في بيت لحم ليقضي علي هذا المولود الذي اقلقه وانزل بصدره المخاوف والهموم.. وكانت مريم قد عادت بوليدها الي بلدتها »الناصرة« ولنا لقاء اخر للحديث عن فرار مريم بوليدها الي مصر هربا من بطش هيرودوس. حوتان ألتهما النبي يونس الأربعاء: اختار الله سبحانه وتعالي شجرة القرع ليستظل بها العبد الصالح نبي الله يونس عليه السلام المعروف »بذي النون« حين لفظه الحوت الي الشاطيء لفوائد كثيرة.. لتحميه من حرارة الشمس لان ورقها كثيف وشديد النعومة ولا يقربه ذباب.. ويؤكل ثمره من اول طلوعه الي اخره كما يؤكل نيئا ومطبوخا وبقشره وببذره وفيه منافع وفوائد صحية كثيرة.. وقد اجمع المفسرون علي ان القرع هو المعني لليقطين حين قال تعالي: »شجرة من يقطين« وقد اختلف المفسرون في المدة التي قضاها يونس في جوف الحوت فقالوا: بعض يوم، التقمه ضحي ولفظه عشية، وقالوا: ثلاثة ايام وسبعة واربعون يوما. ارسل يونس عليه السلام الي اهل قريته »نينوي« ناحية الموصل بالعراق ولما غادر يونس غاضبا من قومه لعدم ايمانهم اصابتهم عواصف وريح شديدة وانقلاب في الطبيعة ولما سألوا علماءهم عن سبب ذلك اجابوهم: ان هذا بداية لعذاب شديد سيصيبهم من الله بسبب ما فعلوه مع نبيه يونس فخافوا وآمنوا وردوا المظالم الي اهلها حتي ان الرجل كان ليهدم جدار بيته لان به حجرا سرقه من جاره، ليعيد الحجر لجاره. وذكروا في هذا الشأن ان يونس تم القاؤه في البحر من السفينة التي ركبها ولعبت بها الامواج لتخفيف الحمولة ولتنجو السفينة واجروا القرعة ثلاث مرات فاصابت يونس وبعث الله عز وجل حوتا عظيما من البحر الاخضر فالتقم يونس وامر الله الحوت الا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما واخذه وطاف به البحار كلها.. وقيل ان حوتا اخر اكثر ضخامة التهم الحوت الذي بداخله يونس قبل ان يلفظه الي الشاطيء.