النكتة التي تتردد في الدوائر السياسية العراقية في الأيام الأخيرة هي تقديم اقتراح بدعوة زعيم تنظيم »القاعدة« أسامة بن لادن للإقامة في العراق.. لعل الأمريكيين يغيرون رأيهم.. ويصرفون النظر عن الانسحاب من العراق!! .. أما السبب في رواج هذه النكتة فهو أن مسئولين سياسيين من احزاب وطوائف ومذاهب وأعراق مختلفة في بغداد يكادون يتوسلون إلي الأمريكيين من أجل استمرار احتلال العراق وعدم الانسحاب حتي لا يتركوا البلاد للذئاب، علي حد تعبير أحدهم!! هذا ما انتهت إليه حركة التحرر العربي: ان يستجدي عرب.. المحتلين لكي يواصلوا احتلالهم!!.. ولا غرابة في ذلك إذا كانت هذه التوسلات تصدر من شخصيات في نظام خرج من رحم الاحتلال وقائم علي تبادل الحصص، والمغانم والمنافع.. ولكن التصريحات الاستفزازية تترك في النفوس شعورا بالمرارة والحسرة والغضب.. وعلي سبيل المثال، فإن اللواء بابكر زر باري، قائد القوات المسلحة العراقية يدعو إلي بقاء القوات الأمريكية في العراق حتي عام 0202 علي الأقل!!.. وجاءت كل هذه التوسلات والاستجداءات بمناسبة سحب 09 ألف جندي أمريكي من العراق بينهم 51 ألفا انسحبوا خلال شهر واحد، وكان آخرهم فرقة »سترايكر« الرابعة التي اجتازت الحدود إلي الكويت يوم 81 أغسطس الجاري. تجاهل أصحاب التوسلات والاستجداءات ان الغزو الأمريكي للعراق، أودي بحياة أكثر من مليون عراقي وأوقع عددا أكبر من الجرحي، كما انه أدي إلي تشريد أربعة ملايين عراقي اصبحوا بلا مأوي وتهجير أكثر من مليونين إلي جانب اعتقال الآلاف من العراقيين الذين تعرضوا للتعذيب والإهانة والإذلال في معسكرات الاعتقال الأمريكية.. لقد أصاب الاحتلال.. العراقيين بكارثة اجتماعية وإنسانية مروعة.. ودمر المؤسسات وتحول العراق إلي خرائب واصبح أكثر من نصف السكان عاطلين عن العمل، كما اصبح ربع عدد السكان.. تحت خط الفقر.. ويعيش معظم العراقيين الآن بلا مياه نقية أو رعاية صحية، وبلا سكن مناسب.. وفي أوقات كثيرة.. بلا كهرباء. وماهي صورة العراق الآن بعد سبع سنوات ونصف من الاحتلال؟ صراعات طائفية وعرقية ومذهبية، وتدخلات اقليمية ودولية، وطائفة الشيعة ممزقة بين ثلاث فرق، وطائفة السنة تتنازعها عدة تيارات، وكذلك الاكراد، ولا يستطيع العراقي ان يسير في الشارع وهو مطمئن علي حياته. ومنذ اجراء الانتخابات النيابية في السابع من شهر مارس الماضي.. والخلاف مستمر حول تشكيل الحكومة حتي وصل الجميع إلي طريق مسدود.. وإذا كان الامريكيون قد اضطروا لهذا الانسحاب الجزئي لكي يتركوا وراءهم، في نهاية هذا الشهر، خمسين ألف جندي، فإن ذلك يرجع إلي انهم تكلفوا نحو تريليون دولار »ألف مليار« و0044 قتيل ومئات الآلاف من الجرحي، وفي الاسبوع الماضي، أجرت شبكة »سي. ان.ان« الاخبارية استطلاعا للرأي بين الأمريكيين كشف معارضة 96 في المائة منهم للغزو الأمريكي للعراق.. ومع ذلك، فإن الأمانة تقتضي ان نطمئن اصحاب التوسلات والاستجداءات إلي ان ما اعلنته أبواق أجهزة الدعاية في واشنطن من ان 81 أغسطس هو »يوم نهاية الحرب في العراق« ليس صحيحا علي الاطلاق. فالأمور تمضي كالمعتاد في العراق.. والشئ الوحيد الذي تغير هو الاسم الذي يطلق علي الخمسين ألف جندي أمريكي المتبقين هناك، فقد اصبح هذا الاسم هو »قوات مكافحة الارهاب« أو جماعة »المدربين والمستشارين« رغم انها تؤدي نفس المهام التي ظلت تؤديها في السابق. وعندما تلقي الجنرال ديفيد بتريوس، القائد العسكري الأمريكي، سؤالا من صحفي لحوح عما إذا كان هذا هو الوقت المناسب لمغادرة العراق، صرح الرجل بما لم يكن ينبغي ان يصرح به علنا علي الأقل.. فقال: »أولا وقبل كل شئ.. اننا لا نغادر العراق.. والخمسون ألف جندي أمريكي هناك يملكون قدرات هائلة«.. وهذا الحديث عن »القدرات الهائلة لا يتفق مع الرواية الرسمية التي تقول ان تلك القوات عبارة عن مجرد »مدربين«!.. أما »جيف موريل« السكرتير الصحفي للبنتاجون، فقد صرح قائلا: »لا أظن أن أحدا قد أعلن انتهاء الحرب في حدود ما أعلم«! وربما يطمئن اصحاب التوسلات أكثر فأكثر إذا علموا انه ستحدث زيادة ضخمة في عدد جيش المرتزقة الأجانب في العراق لملء أي فراغ ينشأ عن تخفيض عدد قوات الاحتلال. يقول »جيرمي سكيهيل« الكاتب الأمريكي ومؤلف كتاب »بلاك ووتر«، إن عدد هؤلاء المرتزقة وصل مؤخرا إلي 051 ألفا، ومن هنا فإن لدي الولاياتالمتحدة قوات مسلحة بديلة في العراق، ويؤكد »فيليب كراولي« المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ان هناك خطة لارسال سبعة آلاف من المتعاقدين الأمنيين الأمريكيين في أكتوبر من العام القادم إلي العراق للقيام بالبحث عن القنابل التي تزرع علي جوانب الطرق، وتشكيل »قوة تدخل سريع« لعمليات الانقاذ! ومن المتوقع توجيه تعليمات إلي قيادة الجيش الأمريكي في العراق لكي يسلم بعض معداته الثقيلة لهذا »الجيش الجديد« لاستخدامها!.. ويقول الكاتب الأمريكي مايكل شوارتز، مؤلف كتاب »حرب بلا نهاية« ان القوات الأمريكية التي ستبقي في العراق ستؤدي نفس المهام التي كانت تؤديها منذ بدء الاحتلال، فهي ستقاتل وتهاجم معاقل المتمردين وتقوم بضربات جوية وضربات بالمدفعية والدبابات. ولكي يطمئن قلب اصحاب التوسلات، فإنه رغم وجود هذه البدائل، فإن القيادة العسكرية الأمريكية تريد إدخال تعديلات علي الاتفاقية الأمنية مع العراق تتيح استمرار الوجود العسكري الأمريكي في البلاد بعد نهاية عام 1102 التي يفترض - وفقا لتلك الاتفاقية- ان تنسحب بحلولها جميع القوات الأمريكية.. وهناك اقتراحات يطرحها البنتاجون تدور حول الابقاء علي عشرة آلاف جندي أمريكي بعد عام 1102. ووفقا لاتفاقية الإطار الاستراتيجية »الأمريكية - العراقية«، التي وقعت في نفس الوقت مع الاتفاقية الأمنية عام 8002، فإنه يمكن الابقاء علي مستوي معين من الوجود العسكري الأمريكي في العراق إلي أجل غير مسمي، خاصة ان القواعد العسكرية الأمريكية الخمسة الرئيسية هناك موجودة وجاهزة.. وتكفل مواصلة الضغط علي العراقيين لكي يسيروا علي خطي السياسات الأمريكية، ولكي تضمن واشنطن ان الشركات الدولية هي التي ستظل تسيطر علي موارد البترول.. وعلي اصحاب التوسلات ألا يلتفتوا إلي المزاعم التي تقال في واشنطن الآن حول »وفاء« الرئيس باراك اوباما، بوعده الذي قطعه علي نفسه في حملته الانتخابية.. فقد كان ذلك الوعد الذي قدمه للناخبين هو سحب كل القوات الأمريكية من العراق خلال 61 شهرا بعد دخوله البيت الأبيض.. أما ما يجري الآن، والجدول الزمني الذي يلتزم به في الوقت الحاضر ويتفاخر بتنفيذه، فان صاحبه الحقيقي هو الرئيس السابق جورج بوش حيث ان هذا الجدول يقع ضمن الاتفاقية الأمنية التي وقعها مع حكومة بغداد عام 8002، كما ان خطة سحب بقية القوات في نهاية عام 1102 وردت ضمن نفس الاتفاقية. والجديد في الأمر ان هناك اصواتا داخل إدارة أوباما تطالب بعدم الانسحاب حتي في نهاية عام 1102، ولكن المسئولين الأمريكيين يفضلون عدم الحديث عن هذا الموضوع في الوقت الحالي! وقد يسمع اصحاب التوسلات اخبارا طيبة، في هذا الشأن، في المستقبل المنظور!!