كنت أتوقع أن ينشر الخبر السار الذي يتمني أهالي قرية المريس بالأقصر بالذات قراءته. وهو خبر إلغاء إنشاء الميناء الذي كان مقررا إنشاؤه علي ضفة نهر النيل عند هذه القرية. فهذا يعني إلغاء تجريف 500 فدان زراعي من أملاك هؤلاء السكان. ويعني أن يستمر الفلاحون من أهالي القرية في زراعة أراضيهم التي ارتبطوا بها منذ آلاف السنين. هذا خبر سار جدا ليس فقط لأهالي المريس ولكن للحكومة أيضا. لأنه سيعيد العلاقة بين الحكومة وبين الأهالي إلي مسارها الصحيح. أدي الإعلان عن تخصيص خمسمائة فدان من أجود الأراضي الزراعية في قرية المريس لإنشاء الميناء النهري وتعويض أصحابها إلي غضب عارم بين أهالي القرية، وبالتالي خلق حالة شديدة من التوتر بينهم وبين الحكومة، وصل الأهالي إلي وسائل الإعلام والي نقابة الصحفيين في عقر دارها وأقاموا مؤتمرا لهم فيها، ودافع عنهم عدد من الزملاء والزميلات في عدد من الصحف، كما استخدموا الانترنت وبثوا مظاهر غضبهم. لذا كان من الضروري بعد كل هذا الغضب أن يتم نشر خبر العدول عن إنشاء الميناء في المريس. هذا رجوع إلي الحق يحسب لصالح الحكومة بلاشك، والتي عليها أن تثبت دائما أنها تعمل لصالح الناس، لسبب بسيط: أنها منهم وهي حكومتهم. قد يذكر قراء لي أنني أول من عارض إقامة هذا الميناء في هذا المكان تحديدا. لقد كتبت في هذا المكان سلسلة من المقالات في أوائل عام 2007 بعنوان " ماذا يجري في مدينة الأقصر ؟ ". خصصت المقالة الخامسة في هذه السلسلة ونشرت في 24 أبريل 2007 لمعارضة مشروع إنشاء هذا الميناء. الآن وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات يتحقق ما طالبت به من إلغاء مشروع الميناء النهري في قرية المريس . عارضت المشروع لأسباب واضحة ذكرتها في هذه المساحة، وكررتها في الاجتماعات المغلقة التي حضرتها لمناقشته، كان آخرها مع الوزير المثقف والكاتب الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار، وهي الوزارة التي أسند إليها مشروع إنشاء الميناء، وفي حضور الدكتور سمير فرج محافظ الأقصر . كان من أهم هذه الأسباب: ضرورة الحفاظ علي الأرض الزراعية وبخاصة إذا كانت من أخصب أراضي وادي النيل كما هو الحال في المريس، وضرورة الحفاظ علي المناطق الأثرية في البر الغربي من مخاطر الزحف العمراني والذي يمكن أن يصل الي وادي الملوك والملكات خلال عدة سنوات انطلاقا من العمران الكبير الذي كان سيقام في ميناء المريس . فالمريس لا تبعد سوي تسعة كيلومترات فقط عن المنطقة الأثرية . قناعتي دائما أن الزراعة والآثار هي أهم المقدرات التي تملكها مصر، وأنه لا مستقبل لمصر بدونهما. علينا أن ننتبه هنا إلي أن إلغاء إقامة الميناء في المريس لا يحل المشكلة الأصلية والتي من أجلها تم التفكير في إقامته، وهي مشكلة رسو 281 سفينة فندقية تعمل في النيل بين الأقصر وأسوان وأبي سمبل، وتخدم حركة السياحة في مصر، وتشكل مصدر دخل لكثير من العاملين المرتبطين بها. هذه الفنادق العائمة ترسو حاليا في شريط ضيق علي البر الشرقي لمدينة الأقصر وتتكدس بجوار بعضها البعض مسببة مشاكل عملية وبيئية، ومنها مشاكل الصرف غير الصحي والتلوث الناجم عن تشغيل موتورات السفن . وقد اعتدنا علي هذا الوضع منذ عشرات السنين، دون التفكير في حل هذه المشاكل أو الشروع في حلها. لذا تبقي هذه المشكلة تبحث عن حل رغم إلغاء إقامة ميناء حديث لها علي شاطئ قرية المريس. الحل ليس بالسهولة التي نكتب بها مقالاتنا. هناك اعتبارات عديدة يجب أن تتوافر في الميناء النهري أكثر تعقيدا من تلك التي تقام عليها المواني البحرية كما يقول الخبراء. استمعت إلي الأستاذ الدكتور أحمد شاهر وهو يشرح هذه الاعتبارات ومنها: قدرة السفن علي المناورة للرسو علي الشاطئ أو الرصيف . وهذه المناورة تعتمد علي معدات خاصة بالسفينة. هناك ثلاثة مستويات للمناورة هي: ممتازة و جيدة ومناورة أولية، وهي للسفن التي ليست فيها معدات متقدمة وتعتمد علي الرفاص والدفة. وقد فوجئت أن 90٪ من الفنادق العائمة في القصر تعمل بهذا النظام القديم. لابد أن يكون المرسي في منطقة متزنة هيدروليكيا ولا تتعرض للترسيبات أو النحر وأن تكون سرعة المياه مناسبة. توافر الأعماق الكافية للملاحة الآمنة، مع وجود أقل تصرف للمياه في النهر. أن تكون التأثيرات البيئية في الحدود المقبولة. رسو السفن طوليا موازية للشاطئ وفي حدود سفينتين فقط متجاورتين عرضيا. حل مشاكل الصرف الصحي للسفن في الميناء مع توصيل الكهرباء لها لمنع استخدام المولدات الضارة بالصحة. سهولة تقديم الخدمات اللازمة لهذه السفن. والسؤال الآن أين تتوفر هذه الاعتبارات في البر الشرقي للأقصر؟ شكل الدكتور سمير فرج محافظ الأقصر لجنة من كبار الاستشاريين والخبراء المصريين المتخصصين. عقدت عدة اجتماعات وتفقدت نهر النيل في المدينة، وقدمت عدة مقترحات لأماكن يمكن إنشاء ميناء فيها، منها: مقترح بإقامة ميناء في هضبة الطود السياحية، ومقترح آخر عند الجزيرة الجنوبية لمدينة أرمنت، ومقترح ثالث جنوب شرق المدينة، ومقترح شمال المدينة بجوار قرية الزيتية. المشكلة أن أي مقترح من هذه المقترحات لن يستوعب العدد الكامل للسفن العاملة حاليا هناك. علما بأن هناك قرارا منذ خمس سنوات بعدم الترخيص لسفن فندقية جديدة. إذن ما الحل ؟ طلب السيد الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء استمرار مجموعة الخبراء في الدراسة والبحث لتحديد المواقع الملائمة لرسو السفن . وفي الوقت نفسه أكد علي مبدأ مهم وهو ضرورة الحفاظ علي الجزر الموجودة في النيل كمحميات طبيعية خضراء. في رحلة البحث عن حل لهذه المشكلة، أتذكر الآن درسا تعلمته من أستاذ علم النفس، الدكتور محمود الزيادي علي ما أذكر، في سنة أولي بمعهد الإعلام بجامعة القاهرة قبل أن يتحول إلي كلية. فلقد رسم لنا مربعا وطلب منا حل مشكلة به. لم يعرف أي طالب الحل الصحيح. لأننا جميعا فكرنا في الحل داخل المربع. وكان الحل الذي شرحه لنا الأستاذ خارج المربع. فإذا طبقنا هذه الفكرة علي مشكلة رسو السفن الفندقية في الأقصر، فإن التفكير الحالي هو في توفير ميناء للعدد الكبير الحالي من السفن. فهذا العدد هو المربع الذي ننظر داخله . فلماذا لا نفكر في حلول أخري: الفكرة أننا لا يجب أن نكون أسري اعتبار واحد وهو ضرورة خلق ميناء نهري لكل هذا العدد الكبير من السفن في أهم منطقة أثرية في العالم مسجلة من أوائل مناطق التراث العالمي في اليونسكو.