إن الفتنة تغزو كل قلب.. حتي قلوب الأنبياء! فقد وهب الله النبي داود ملكاً واسعاً عريضا، وأعطاه من المال الكثير، وميزه علي سائر بني الانسان بميزات جمة، منها أنه وهبه صوتاً جميلاً، حتي إنه كان إذا جلس يرتل »الزبور« اقتربت منه أشد الوحوش ضراوة، تستمع الي الصوت الجميل، فلا يخشي بأسها، وهي علي هذه الحال. وكان داود يقسم أيامه بين اغراض ثلاث، فيوم ينفرد فيه لنفسه، يتعبد ويتقرب الي الله، ويوم يجلس فيه إلي رعيته يستمع إلي شكاواهم، ويفصل بينهم، ويوم يخلو فيه إلي نسائه، وكان عددهن تسعا وتسعين. ولكن داود، وإن كان نبياً، الا أنه بشر، ومن طبيعة البشر ألا يقنع بما بين يديه، وهذا هو ما فعله داود حين قال لربه يناجيه في أحد الأيام المخصصة للعبادة »يارب، إنك اعطيتني من فضلك الكثير، لكن هذا الكثير أقل مما أنعمت به علي إبراهيم واسحق ويعقوب.. فجاءه الرد من السماء بأن إبراهيم قد امتحن بذبح ابنه، واسحاق بذهاب بصره، ويعقوب بفقد يوسف.. وإنهم جميعاً قد صمدوا للمحنة، فقال داود »ربي امتحني كما امتحنتهم، وأعطني كما اعطيتهم« فقال له صوت السماء »إياك يا داود والفتنة«. واشرقت الارض يوما بنور ربها، وآنس داود من الجو اعتدالا، فخرج مع الصبح الباكر إلي الصحراء في أطراف المدينة يملأ رئتيه بالهواء العليل، وإذا به يري حمامة عجيبة تلمع في الفضاء ببريق يخطف الابصار، تطير ثم تهبط علي الأرض امامه وتقف.. كانت الحمامة من ذهب، وكان جناحاها من لؤلو وزبرجد، وكانت شمس الصباح تعكس ضوءها علي اللؤلؤ والزبرجد والذهب، فترسل الحمامة بريقاً رائعاً، وبلغت دهشة داود اقصي مداها، وهم ليمسك بالحمامة، ولكنها طارت، فأخذ داود يجري وراءها. ولم تكن الحمامة في طيرانها لترتفع حتي يفقد داود الأمل في إمساكها، إنما كانت تقترب منه حيناً، لتبتعد عنه حيناً آخر، فتغريه بمطاردتها، والظفر بها. وصعدت الحمامة فوق ربوة صغيرة، فصعد داود الربوة وراءها، ولكنه ما كاد يصل الي قمة الربوة، حتي اختفت وتلاشت، ووقف داود يسائل نفسه.. كيف اختفت، ومن أين أتت، ثم ألقي ببصره إلي الفضاء المنبسط، فرأي بحيرة هادئة ساكنة، يحيط بأطرافها النخيل، ورأي جسماً يتحرك في ماء البحيرة، وأدرك أنه جسم امرأة من رأسها الذي كان تتهدل منه خصلات طويلة، ولم تلبث حتي خرجت من الماء، كالحورية، وقطرات الماء تتدحرج فوق جسمها الناصع البياض، وتسمرت عينا داود، ومالت المرأة الفاتنة الي الأرض، وتناولت مشطاً، وقفت تمشط شعرها الطويل حتي ركبتيها، وداود واقف يتأمل في ذهول هذه الفاتنة التي بدأت تغزو قلبه، وكيانه، وبعد برهة كان داود قد استدار علي عقبيه، وعاد إلي المدينة مسرعاً، وقد اعتزم في نفسه أمراً. نادي رجاله وطلب منهم أن يتحروا له عن تلك المرأة، ومن تكون، ولم تمضي أيام قلائل حتي جاءوه بالنبأ.. إنها زوجة جندي من جنوده إسمه »أوربا«، كان في ذلك الحين يقاتل في جيش من جيوش داود، وضايق داود أن يكتشف أن المرأة متزوجة، فأرسل إلي قائد جيشه الذي يقاتل فيه »أوربا« يأمره بأن يضعه في موضع لا ينجو فيه من الموت، ودارت المعركة، ووضع أوربا في أخطر موقع، ولكن المعركة إنتهت ولم يقتل أوربا، وأرسل داود إلي قائده يأمره بأن يكرر ذلك، في معركة ثانية، ففعل، ولكن أوربا نجا أيضاً وبعث داود إلي قائده يأمره بان يكرر ذلك في معركة ثالثة، وفي هذه المرة قتل أوربا، وخلا الجو لداود، فلم تمض علي قتله أيام حتي كان قد اضاف المرأة التي فتنته إلي زوجاته التسعة والتسعين، فصرن مائة، وعاد داود إلي سابق عهده، يعيش آمنا مطمئنا، ويقسم أيامه.. يوما لربه ويوما لرعيته، ويوماً لنسائه. وفي أحد الأيام التي خصصها لربه، كان داود يجلس في غرفة خالية علي حصير القي في وسط الغرفة، وكان يرفع كفيه للسماء بالدعاء لربه حين فوجيء برجلين واقفين أمامه، فسألهما عن أمرهما، فقالا إن بينهما خلافا، وقد جاءا ليحتكما إليه، وتقدم رجل منهما وقال: إنني أملك شاة واحدة هي كل مالي من حطام الدنيا، وهذا الرجل يملك تسعة وتسعين شاة، ومع ذلك فقد سطا علي شاهي، واغتصبها مني، فالتفت داود إلي الرجل الآخر وسأله »هل فعلت ذلك؟« فقال نعم، فقال له داود: لقد عصيت ربك وظلمت صاحبك ظلماً بيناً، فقال له الرجلان في صوت واحد، »وأنت اما قتلت أوربا، لتغتصب زوجته، وتضمها إلي نسائك؟«. واختفي الرجلان، كأنما قد ابتلعتهما الأرض، وانهار داود خوفا من هول فعلته، وتبدت له جريمته لأول مرة، بشعة منكرة، فسقط علي الأرض يبكي ويبكي، ومرت عليه الأيام والاسابيع، وهو علي هذه الحال، لا يرفع وجهه عن الأرض خجلاً من النظر إلي السماء حتي نحل جسمه، وشحب لونه، وغارت عيناه، وتشعث شعره، كل هذا والسماء صامته لا يصدر عنها صوت، كأنها لا تعنيها أنهار الدموع التي يريقها داود. وبعد عذاب طويل، وبينما كان داوود منكفئاً علي وجهه، واضعاً جبهته علي الأرض، يبكي ويستغفر، إذا بربه يسأله عن سر بكائه »أجائع فتطعم.. أمريض فتشفي.. أمظلوم فتنصر، وأدرك داود مرارة السخرية في مقالة ربه، فيزفر زفرة هائلة يكاد صدره أن ينخلع لها، وهنا جاء صوت السماء يقول له إن ربه غفر له.. ولم يصدق داود، فيرفع رأسه لأول مرة منذ خطيئته إلي السماء، ويسأل ربه ضارعاً، وإذا جاء أوربا يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه، يقول يارب سل هذا فيم قتلني؟ فأوحي اليه ربه »إذا كان ذلك، دعوته واستوهبتك منه، فيهبك لي، وأهبه بذلك الجنة«. فجثا داود حمداً وشكراناً وقال »ربي.. الآن عرفت أن شملني غفرانك«.