أسكن في شقة قريبة من "إستاد" القاهرة الدولي لكرة القدم بمدينة نصر. ولم أكن أدرك معني السكن بالقرب من ملعب رئيسي الا بعد ان اشتريت هذه الشقة. ففي كل مباراة تزدحم الشوارع من حولنا بمئات السيارات المدنية والحكومية وعشرات الالوف من المشجعين الذين لا تتوقف حناجرهم عن الغناء والهتاف منذ صباح يوم المباراة الي صباح اليوم التالي. وينزلق بين السيارات مئات من باعة العلم المصري وعلمي الاهلي والزمالك. وتطور البيع الي "طراطير" ملونة وشعر كثيف مستعار وأبواق تصدر اصواتاً خاصة للتأثير في معنويات الفريق الآخر. وطبعاً تزدهر مع هذا المهرجان "ساندويتشات" الفول والطعمية والكشري والبطاطس والمرطبات والبسكويت وما يلزم من "تسالي", وما يعقب كل ذلك من "مزابل" لا أول لها ولا آخر مما يدفع محافظ القاهرة الي اعلان حالة الطوارئ لازالة آثار المباراة! وقد تصادف في ديسمبر 1965 ان زار مصر الزعيم السوفيتي الراحل نيكيتا خروتشوف بدعوة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, وتصور ان الاعلام الحمراء التي ازدحمت بها شوارع القاهرة كانت لتحيته بينما هي أعلام النادي الاهلي الذي كان يخوض مباراة حاسمة مع غريمه التاريخي نادي الزمالك. ولا أعرف ما اذا كانت هذه المعلومة "تشنيعة" علي خروتشوف أو انها حقيقية! وبين يدي كتاب طريف وخفيف وظريف عنوانه "مصر بتلعب!" كتبه الصحفي محمد توفيق وعلي غلافه صور الرئيس عبد الناصر والفنان عادل امام واللاعب ابو تريكة ليقول لنا ان الثلاثة هم زعماء الشارع المصري. ويفسر لنا المؤلف عنوان الكتاب الصادر عن دار الشروق فيقول: " نعم مصر تلعب منذ ان تحولت مباريات كرة القدم الي معارك حربية، وأصبحت الهواية احترافاً، والفوز انتصاراً تاريخياً، والخسارة هزيمة مدوية، والهدف قاتلاً، واللاعب رمزاً, والمدرب فيلسوفاً, والمحلل الرياضي مفكراً، والمعلق اعلامياً، وحارس المرمي السد العالي, وخط الدفاع الحصن المنيع، وخط الوسط منطقة المناورات، وخط الهجوم قوة لا تقهر, واللاعبون البدلاء الاحتياطي الاستراتيجي، وضربة الجزاء عدالة السماء, وهدّاف الفريق بطلاً، والبطولة الكروية انجازاً حكومياً، والتدريبات معسكرات لا يجوز اختراقها، والمنافسون اعداء، والملعب ساحة معركة، والشعب جمهوراً. نعم مصر تلعب منذ ان نامت في تلك الليلة مبكراً لانها علي موعد صباح اليوم التالي (الجمعة 9 فبراير 1917) مع أول مباراة في تاريخ مصر بين الاهلي والزمالك (الذي كان يحمل اسم المختلط)"! وبهذه المقدمة الساخرة، التي تنطبق علي كل الدول العربية وليس مصر وحدها، شرح لنا المؤلف نظرية اللعب واللاعبين والملعب طوال السنوات التالية مع شواهد بالاسماء والتواريخ وتعليقات لصحفيين معروفين ومواقف لسياسيين مشهورين. ومعروف ان رئاسات كثير من نوادي كرة القدم والاتحادات الرياضية المصرية، وفي الدول العربية الشقيقة، كان أو مايزال، يتولاها قادة عسكريون لا تقل درجاتهم عن "فريق".. ربما لان هناك علاقة لغوية بين "الفريق" العسكري و"الفريق" الرياضي باستثناء "المشير" عبد الحكيم عامر الذي كان رئيساً للاتحاد المصري لكرة القدم قبل نكسة يونيو 1967! . ولعل تولي العسكريين قيادة هذه النوادي هدفه تحقيق أكبر تنظيم وانضباط فيها. وهذه الملاحظة ينفرد بها العرب، فنحن لم نسمع عن جنرال من المارينز الامريكي يرأس نادياً لكرة "البيس بول". والفرق كما يقول المؤلف بين كرة القدم عندنا وعندهم هو انهم يعتبرونها جزءاً من نجاحاتهم في بقية المجالات، بينما عندنا تمثل الكرة كل شيء جميل ورياضي ووطني وشعبي، وهي ايضاً سبب اصابتنا بالسكري وضغط الدم والقرحة والحسرة.. وقصر النظر في بعض الاحيان! وياليت السياسيين يلجأون الي الكرة لحل مشاكل الامة التي لا أول لها ولا آخر. كاتب المقال: كاتب عراقي