يعاني "النظام العربي" من تفكك ظاهر على الأقل منذ أزمة الخليج الثانية في1990. ويشير هذا التفكك إلى عجز النظام عن تحقيق أهدافه الجماعية في وقت تتعرض فيه دوله للاحتلال والعدوان، فضلاً عن التدخل في شؤونه، ناهيك عن تعرض عدد من الدول العربية لخطر التفكيك و/أو عدم الاستقرار. ويحدث كل ذلك في وقت تنشط فيه قوى إقليمية كبرى محيطة بنا كإيران وتركيا في سباق على النفوذ داخل النظام العربي بما يتسق والمشروع الوطني لكل منهما، وبما أن أحد ملامح الاندفاعة الإيرانية ومثيلتها التركية هو التنسيق بين الدولتين من أجل استقرار إقليمي فإن النظام العربي مهدد بالتهميش على ضوء مخاطر الاختراق من النظام العالمي والحضور المؤثر من دول المحيط الإقليمي. يبدو الوضع مقلقاً إذن بالنسبة لحاضر النظام العربي ومستقبله، وقد مر هذا النظام دون شك بمراحل شهد فيها خلافات ونزاعات وصراعات حادة بين وحداته، إلا أن الأمل كان يحدوه دوماً لأن الجماهير العربية كانت تمثل قوة ضغط غير رسمي على النظام وقادته، فتحاول أن توجههم إلى المسار السليم: المصالحة فيما بينهم، والتوحد في مواجهة العدو، كما حدث في دور الجماهير العربية تجاه سياسات المصالحة العربية في ستينيات القرن الماضي، فقد كانت ثمة صراعات حادة في ذلك الوقت بين عديد من الدول العربية، لكن دعوة عبدالناصر إلى قمة مصالحة في 1964 من أجل التوحد في مواجهة الخطر الإسرائيلي على مياه نهر الأردن لم يكن ممكناً أن تقابل بالرفض من أي حاكم عربي لأن الجماهير لم تكن مستعدة للتسامح مع غير المندفع في خدمة "الأهداف القومية". ويزداد القلق على حاضر النظام العربي ومستقبله في هذا السياق، فقد ضعفت حركة الجماهير إلى حد بعيد، كما هو واضح في الغزو الأميركي للعراق في 2003، والعدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة في أعوام 2006 و2008 /2009، والتهديد اليومي للمقدسات الدينية، فلأول مرة لم يعد الخطر الخارجي يوحد العرب، بل لعله بات يساعد على المزيد من انقسامهم كما في حالتي العدوان على لبنان (2006) وغزة (2009/2008)، ناهيك عن أن الأمور قد تفاقمت على نحو ينذر بسوء منذ الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، فلأول مرة توضع المسألة الطائفية المذهبية على بنود جدول الأعمال العربي إن لم يكن على رأسها في حالات معينة، وبدأنا نشعر للمرة الأولى في تاريخنا المعاصر بالوطأة الثقيلة للمسألة "السُّنية- الشيعية" في الوطن العربي، وهي مسألة عاشت معنا قروناً من الزمان، ولم تسبب مشكلات حادة لبعض الدول العربية إلا في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق وعزفه -أي الاحتلال- على الوتر الطائفي لأسباب معلومة للكافة، وسرعان ما انتشرت أصداء ذلك العزف النشاز في عديد من أقطار الوطن العربي، التي انكفأت على داخلها، وبدأت تظهر على بعضها أعراض هذا الانكفاء في إطار شعار "القطر أولاً"، ووصل الأمر في مصر إلى محاولة نقيب الممثلين تحجيم الحضور العربي في الفن المصري، ومن ثم كسر تقليد عرفته الحياة العربية منذ عقود طويلة من الزمن، وهو تقليد لا يعرف فيه الفن حدوداً قطرية، وتستقطب بموجبه الأعمال الفنية أفضل ما في الوطن العربي من كتاب ومخرجين وممثلين وغير ذلك، وهي محاولة باءت بالفشل بحمد الله. وما كان ينقصنا في هذا الصدد إذن هو "صراعات الرياضة العربية" كي تتكفل بتقطيع ما تبقى من صلات ود وتراحم بين الجماهير العربية، مع أن الرياضة يفترض أنها عامل من عوامل تقريب الشعوب وتوحيدها، ومن المنطقي أن يتحقق ذلك التقريب وهذا التوحيد بدرجة أكبر بين الشعوب العربية لما بينها من صلات أوثق، لكن ما شهدته السنوات الأخيرة للأسف هو العكس. صحيح أن الساحة الرياضية العالمية تشهد من حين لآخر علامات توتر وعنف بسبب المباريات الرياضية، ولكنها شهدت في الوقت نفسه توظيف الرياضة من أجل التقارب بين الشعوب والدول، ولعل دبلوماسية "تنس الطاولة" بين الولاياتالمتحدة والصين في سبعينيات القرن الماضي هي المثال الأبرز في هذا الصدد. وفي محيطنا الإقليمي لاشك أننا تابعنا الطريقة التي وظفت بها تركيا مباراة كرة القدم بينها وبين أرمينيا من أجل المساعدة على إنهاء العداء التاريخي بين البلدين، وهو ما يتناقض كل التناقض مع عديد من اللقاءات الرياضية العربية وآخرها مباراة مصر والجزائر في التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس العالم في العام القادم. كان كافياً من أجل تحقيق الهدف "الوطني" أن تتابع الجماهير جهود التدريب ووضع الخطط، وأن تُذكر أقوال طيبة بخصوص الرغبة المشروعة لكل طرف في الفوز، ولكنَّ ما حدث فاق الخيال، فإذا بحملات إعلامية متبادلة يسخر أصحابها من "خصمهم" في المباراة الحاسمة، ويحضون على كراهيته! وإذا كان هذا مفهوماً بالنسبة لقلة منفلتة من مستخدمي الأدوات التي أتاحها عصر ثورة الاتصالات فإنه ليس كذلك بالنسبة لأجهزة إعلام يفترض أن القائمين عليها أناس ناضجون يقدرون المسؤولية. وفي هذا الإطار استخدمت عبارات بذيئة من الطرفين كل منهما بحق الآخر، ووصفت المباراة بأوصاف حربية، وساد بالفعل مناخ تجييش الشعب من أجل معركة وهمية. ونجحت هذه الحملات للأسف في أن تنقل صورة زائفة عن "الخصم" للمواطن العادي في البلدين، مع أن الشعبين الجزائري والمصري كما أعرفهما من خلال الخبرة المباشرة والمعايشة، هنا أو هناك، شعبان مكافحان وودودان، وذلك بطبيعة الحال مع استثناءات قليلة هنا أو هناك. وقد تكون هذه الحالة استثنائية لأن الصدفة وحدها وضعت مصر والجزائر مرتين في هذا الموقف: أن يسعى كل منهما للحيلولة دون وصول الطرف الآخر لنهائيات كأس العالم كي يفوز هو، وقد تكون درجة الشحن الإعلامي البغيض التي صاحبتها كذلك استثنائية، ولكننا على أية حال أصبحنا إزاء "ظاهرة" وليست أحداثاً منفردة. أحلم يوماً بتمثيل عربي موحد بالدورات الأوليمبية، على النحو الذي يزيل كل هذه النعرات الوطنية الزائفة، وأحلم -كحد أدنى- بأن تحطم المباريات الرياضية العربية هذا النموذج السخيف الذي يجعلها عبئاً على تماسك الجماهير العربية، وليست سبباً في تلاحمها، فهل باتت كل أحلامنا يا ترى مستحيلة مهما كان تواضعها؟ نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية