لا يبدو أن أوباما مستعد للقيادة»، «هل هو قوي بما فيه الكفاية؟»، «على أوباما أن يقوم بتوجيه لكمات حادة أكثر»، «حان وقت الحسم في أفغانستان».. هذه عينة صغيرة من عناوين مقالات نشرت أخيرا في الصحافة الأميركية وغيرها، تعكس انطباعا مقلقا وخطيرا بأن الرئيس الأميركي ضعيف ومتردد وغير حازم ويتراجع أمام الضغوط، وبأنه يوحي بالإعجاب لكنه لا يخيف أحدا ولا يعاقب خصومه. بعض هذه المقالات كتبها محللون كانوا قد أيدوا أوباما وانتخبوه، أو مراقبون محايدون يدرسون أسلوبه في صنع القرار. أن يتعرض رئيس ديموقراطي ليبرالي -مثل أوباما- الى انتقادات قاسية ولاذعة أو غير منصفة من قبل الجمهوريين أو اليمين المتشدد، فهذا أمر متوقع وغير مفاجئ. لكن المثير اليوم هو أن هذه المخاوف صادرة عن أصوات متعاطفة. أما ابرز الاتهامات التي تكيل لأوباما فهي أنه يحاول معالجة قضايا وأزمات عديدة، من دون أن ينجح في حل أي منها. كارتر - 2 البعض يتخوف من أن يتحول أوباما الى جيمي كارتر آخر. آخرون يقولون إنه إذا لم ينجح أوباما وبسرعة في نسف هذا الانطباع، من خلال توجيه «لكمات قاضية» لخصومه، أو تحقيق انتصارات واضحة، فانه يجازف بتعريض حزبه لنكسة خلال الانتخابات النصفية (2010)، تمهد ربما لخسارته في الانتخابات المقبلة (2012). مساعدو الرئيس يقللون من أهمية هذه الانتقادات، ويقولون إنها ليست بجديدة، ولكن استمرار هذه الانتقادات، خاصة تلك الصادرة عن المؤيدين تعني أنها بدأت تلاحقه كظله. ويوم الأحد الماضي حاول مستشار أوباما البارز دافيد اكسلراد الرد على جوقة المنتقدين الذين يصفون الرئيس بالضعيف، قائلا: «أعتقد انه قوي بما فيه الكفاية، واعتقد أن الناس يريدون القوة، ولكنهم يريدون أيضا قيادة حكيمة، وهذا يتطلب مراجعة بعض القضايا مثل الحرب في أفغانستان، والتفكير فيها بتأنٍّ وتقديم الإيضاحات للآخرين وإقناعهم، وهذا ما يفعله أوباما». تنازلات متكررة أسباب هذا الانطباع عديدة: تتراوح على الصعيد الخارجي بين ما يبدو أنه تراجع عن إصراره الأول والقوي بان تجمد إسرائيل جميع أنواع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية رغم الرفض الإسرائيلي النافر، وبين النقاش العلني والمتناقض أحيانا لكيفية إدارة الحرب في أفغانستان، والإخفاق في الحصول على دعم عسكري أكبر من الحلفاء والتردد في حسم الأمر، وهو تردد يضعف أفغانستان وباكستان من جهة، ويشجع إيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى. ومن الأسباب أيضا: تنازل أوباما عن مشروع الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا، من دون الحصول على تعهد واضح من موسكو بأنها ستتعاون مع واشنطن لفرض عقوبات أقوى ضد إيران إذا أصرت الأخيرة على برنامجها النووي. على الصعيد الداخلي، يتعرض قرار أوباما -إغلاق معسكر غوانتانامو خلال سنة- للانتقاد، لأنه لم يكن خيارا عمليا، ولان أوباما لم يستطع إقناع حزبه بالتصويت على قرار يسمح بنقل المعتقلين من كوبا الى السجون الأميركية، أو إقناع دول عربية (مثل السعودية) بقبول أكثر من 93 معتقلا يمنيا، يمثلون أكثر من ثلث المعتقلين في غوانتانامو لإعادة تأهيلهم. وتعرضت قيادة أوباما لخطة إصلاح العناية الصحية في البلاد، لانتقادات قاسية لان الرئيس أعطى مؤشرات متناقضة حول ما إذا كان يؤيد «وبقوة» أن تتضمن الخطة برنامجا حكوميا للضمان الصحي لذوي الدخل المحدود ينافس شركات التأمين الخاصة. وأمام المعارضة الجمهورية القوية (التي دعمها ديموقراطيون محافظون في الكونغرس) بدا أوباما وكأنه يتراجع عن موقفه الأول حين قال إن البرنامج «ليس جوهريا» لإقرار الخطة. رهبة غائبة المعلق الليبرالي ريتشارد كوهين كان قاسيا ولاذعا، وربما محقا، حين كتب قائلا إن أوباما «يوحي بالكثير من التعاطف، ولكنه لا يوحي بالرهبة. والرهبة أهم عنصر في العلاقات الدولية، حيث تنتظر أوباما امتحانات صعبة للغاية..». وأشار كوهين الى أن أوباما يعني ما يقوله فقط في اللحظة التي يتحدث فيها، «مثل قوله إن أفغانستان حرب ضرورية. ولكن أفغانستان الآن لم تعد ضرورية، وهو أيضا كان يعني ما قاله بخصوص برنامج الضمان الصحي، ولكنه الآن غير متأكد من ذلك. وهو قال انه لن يحاكم أي موظف في ال «سي آي ايه» مارس القسوة مع المعتقلين، ولكنه الآن لم يعد متأكدا من ذلك..». ويرى المؤرخ دوغلاس برينكلي، في مقابلة أجرتها معه مجلة ناشيونال جورنال، أن أوباما "خلق مناخا خاليا من الخوف. ولا أحد يقلق من انتقام أوباما، لأنه رجل يتحلى بأخلاق رفيعة وأهدافه نبيلة، لكنها لا توصلك بعيدا في مناخ واشنطن الذي يمارس فيه الطعن بالسكاكين». ويرى برينكلي انه على أوباما أن يتصرف مثل الرئيس ليندون جونسون، أو مثل الرئيس ثيودور روزفلت المعروفين بممارسة اللعبة السياسية دون رحمة وبطريقة صدامية ومن دون أوهام، وهي صفات ساعدت هذين الرئيسين على اتخاذ قرارات تاريخية. فتردد أو امتناع أوباما عن استخدام قبضته، أدى أيضا الى إغضاب الناشطين الليبراليين في حزبه الذين يلومونه لأنه مثلا لم يعين عددا كافيا من القضاة الفدراليين، ولم ينجح إلا في تعيين 3 من أصل 23 قاضيا فدراليا بسبب معارضة الجمهوريين، وتردد في دخول مواجهة معهم. فكل هذا أدى الى ردود فعل عكسية وساهمت في تشجيع الجمهوريين في مجلس الشيوخ. حلول وسطى ومبهمة ساهم الجدل والتساؤل العلني حول أفغانستان في خلق انطباع بأن أوباما متردد في قبول توصية الجنرال ستانلي ماكريستال زيادة عديد القوات الأميركية هناك، ويبحث عن حلول وسطى ومبهمة قد «تؤدي حتما الى الفشل»، كما قال المعلق دافيد اغناتيوس قبل أيام. ويرى بعض مؤيدي أوباما أن الوقت قد حان لأن يدخل الأخير في مواجهات ومعارك حتى لو خسر بعض الأصدقاء أو بعض المعارك إذا كان ذلك ضروريا لإقناع مؤيديه وخصومه بأنه مستعد للدفاع بشراسة عن مبادئه وعن مصلحة البلاد، وبأنه لن يتردد في محاسبة أو معاقبة من يحاول تقويض سياساته. المعلقة الليبرالية مورين داود، المعروفة بكتاباتها الساخرة، انتقدت ميل أوباما للحلول الوسط والتسويات كما يبين سجله في مجلس الشيوخ. ولاحظت داود في عمود نشرته قبل أيام في صحيفة نيويورك تايمز انه في الوقت الذي حصل الرئيس على جائزة نوبل للسلام، كان ينصاع للضغوط الصينية بعدم استقبال دالاي لاما، الزعيم الروحي والسياسي لشعب التيبت، الخاضع للسيطرة الصينية. وأنهت داود مقالها بتذكير أوباما بأن تحضير العجة يقتضي تكسير بعض البيض، في إشارة ضمنية الى أن اتخاذ القرارات الصعبة يقتضي تكسير بعض الرؤوس.. سياسيا. نكسات الآخرين لكن هل تعتبر مشاكل أوباما فريدة من نوعها مقارنة بغيره من الرؤساء في بدايات ولاياتهم؟ فقد واجه الرئيس الأسبق رونالد ريغان مشاكل اقتصادية خلال أول سنتين له في البيت الأبيض زادت فيها معدلات البطالة على 10%، ولكن ريغان لم يتهم بالتردد أو بالضعف. ومقارنة بالرئيس الأسبق بيل كلينتون وسجله في بداية ولايته، يبدو أوباما في وضع أفضل بعد 9 أشهر فقط في البيت الأبيض. فقد مني كلينتون بهزيمة مهينة في الكونغرس أرغمته على سحب خطته الطموحة لإصلاح العناية الصحية، كما انه أساء معالجة مسألة مثليي الجنس في القوات المسلحة، كما مني بنكسات عسكرية وأمنية في الصومال وهايتي. هذه النكسات الأولية لريغان وكلينتون لم تمنعهما من الحكم لثماني سنوات وتحقيق انجازات داخلية وخارجية مهمة. المسؤولون في إدارة أوباما يقولون إن إطلاق أحكام قاطعة على أداء الرئيس في هذا الوقت المبكر أو الحديث عن انطباعات سلبية قد يصعب جدا محوها، هو أمر مبالغ فيه كثيرا وإنه لا يزال أمام أوباما وقتا طويلا يغير فيه هذه الانطباعات ويحقق فيه انجازات مهمة. ويضيف هؤلاء أن إقرار خطة إصلاح العناية الصحية وهو أمر في حيز الممكن، والإعلان استراتيجية واقعية لأفغانستان، وهو أمر متوقع قبل جولة أوباما في الشرق الأقصى في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، واستئناف جلسات الحوار بين مجموعة الخمسة زائدا واحدا وإيران، ستساهم كلها في تعزيز مكانة أوباما واستعادة الثقة بقيادته. نصر سريع لا شك أن أوباما بحاجة الى نصر سريع أو انجاز واضح قبل انتهاء سنته الأولى في الحكم، ليستعيد ثقة الآخرين بقدراته القيادية. لذلك يأمل البيت الأبيض بإقرار خطة العناية الصحية مع نهاية السنة الحالية. فعلى الصعيد الخارجي من الصعب تحقيق انجازات نهائية أو دائمة في أفغانستان خلال فترة قصيرة، إضافة الى أن المفاوضات مع إيران قد لا تؤدي الى أي نتائج مرضية أو سريعة. كما أن التصلب الإسرائيلي الرافض لأي تجميد جدي للاستيطان، قد يؤخر أو يعطل كليا فرص استئناف مفاوضات السلام. ويرى البعض أن أسلوب أوباما القيادي، أو فلسفته في الحكم والمبنية على البحث عن أرضية مشتركة أو الإجماع لا يمكن اعتمادها خلال فترات الأزمات العصيبة التي تتطلب قرارات من الحتمي أن تؤدي الى إغضاب الكثيرين أو حتى استعدائهم. وفي هذا السياق يبقى نيكولو ماكيافيلي معاصرا ومصيبا في تحليله لقدرات «الأمير» أو القائد عندما قال: «بما أن الحب والخوف لا يمكن أن يتواجدا معا، فإذا كان علينا الاختيار بينهما، فمن الأفضل أن يكون الشخص مخيفا بدلا من أن يكون محبوبا». هذا هو امتحان باراك أوباما من إسرائيل الى إيران وانتهاء بأفغانستان وباكستان. وهو تصلب يقتضي استخدام قبضة حديدية أو تحول جذري في أسلوب العمل.