برغم الانخفاض الشديد الذي طرأ علي شعبية الرئيس أوباما داخل الولاياتالمتحدة الذي هبط بحجم الذين يؤيدون سياساته من70% من الأمريكيين إلي45% في غضون الشهرين الأخيرين وبرغم المصاعب التي تواجه تنفيذ سياساته في أفغانستان بسبب تلكؤ حلفائه الأوروبيين في إرسال المزيد من قواتهم وعدم ترحيب الأمريكيين باستمرار الحرب الأفغانية التي يعتبرها الرئيس أوباما حربا ضرورية لتحقيق النصر علي القاعدة وطالبان, كما تعارض رؤيته في فرض عقوبات جديدة علي إيران كل من روسيا والصين إن رفضت طهران وقف نشاطها في تخصيب اليورانيوم علي مستوي تجاري, ويتعرض مشروعه للرعاية الصحية لخلافات عميقة حالت دون أن يحظي بإجماع الأمريكيين لأنه باهظ الكلفة سوف يزيد من حجم البيروقراطية الحكومية في أمريكا. برغم كل هذه المصاعب والمشاكل التي تواجه الرئيس أوباما داخل الولاياتالمتحدة لايزال الرئيس الأمريكي الأكثر شعبية خارج الولاياتالمتحدة يمنحه92% من الألمان ثقتهم الكاملة ويحظي بتأييد واسع تتجاوز نسبته77% من حجم الأوروبيين. ومن المؤكد أن معظم قادة العالم يفضلون التعامل معه عن أي رئيس أمريكي آخر حكم الولاياتالمتحدة خلال العقود الأربعة الأخيرة قبل مقتل جون كيندي ومن المؤكد أيضا أنه نجح في غضون الأشهر الثمانية التي أمضاها رئيسا للولايات المتحدة في تحسين صورة بلاده مع أن معظم سياساته الخارجية تلقي مصاعب عديدة علي مستوي التطبيق العملي ولعل الترحيب الشديد الذي حظي به خطابه الأخير في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قوطع بالتصفيق الحاد من جانب القاعة مرات عديدة يؤكد حجم الآمال الضخمة التي لا يزال العالم يتوقعها من الرئيس أوباما, وهو يتحدث عن عالم جديد لا يخضع للهيمنة تتعاون كل أطرافه علي مواجهة مشاكل كونية ضخمة تمسك بخناق كوكبنا الأرضي, لم يعد في وسع دولة واحدة مهما بلغ حجم ثرائها وقوتها أن تتصدي منفردة لها ويعد الجميع بأن يعيد لمنظمة الأممالمتحدة دورها وأهميتها واحترامها بعد طول إهمال أمريكي وصل في عهد سلفه بوش إلي حد العداء والازدراء من أجل توسيع دائرة التعاون الدولي وتعزيز المصالح المشتركة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب والالتزام بالاحترام المتبادل لمصالح كل شعوب العالم, وتغيير نمط العلاقات الدولية الراهنة من الهيمنة إلي التفاهم المتبادل والتعاون المشترك والتزام الجميع بالأهداف الأربعة التي اعتبرها أوباما أعمدة التقدم ينهض عليها مستقبل أكثر إشراقا لعالمنا الراهن: نزع السلاح النووي ومنع انتشاره من خلال سياسة حازمة يلتزم بها الجميع وإحلال السلام الدائم في مناطق التوتر العالمي خاصة الشرق الأوسط, ومواجهة المشكلات الطبيعية الضخمة التي تهدد مصير كوكبنا الأرضي خاصة تغيرات المناخ, والتعاون المشترك من جانب كل الدول في مواجهة الأزمة الاقتصادية بما يحقق رفاهية وتقدم كل الشعوب في إطار التزام واضح ومسئول بحقوق الإنسان. ولأن خطاب أوباما في الجمعية العامة رفع سقف توقعات العالم من الرئيس أوباما الذي أعاد الاعتبار لمنظمة الأممالمتحدة ووعد بالعمل من داخلها, كما حدث مع خطابه المهم من فوق منبر جامعة القاهرة الذي رفع سقف التوقعات في العالمين الإسلامي والعربي حول إمكان قيام سلام شامل وعادل في الشرق الأوسط, أصبح السؤال المهم الذي يشغل بال الجميع: هل يستطيع الرئيس أوباما أن يفي بكل هذه الوعود؟! وهل يقدر علي مواجهة هذه الكومة من المشاكل الضخمة التي تزحم برنامج عمله مرة واحدة؟!... وإذا كان مشروعه لإقامة سلام شامل وعادل في الشرق الأوسط لايزال يتعثر في بداية الطريق منذ ثمانية أشهر بسبب رفض حكومة إسرائيل تجميد أنشطة الاستيطان في الأرض المحتلة, الأمر الذي أثر كثيرا علي شعبية أوباما في منطقة الشرق الأوسط, فهل يمكن أن تعاودنا نحن العرب الثقة في وعوده المتكررة التي تجددت في خطابه الأخير من دون حدوث أي تغيير علي أرض الواقع؟!. والحق أن الرئيس الأمريكي أوباما جدد مرة أخري في خطابه أمام الجمعية العامة التزامه الموثق باستمرار العمل من أجل الوصول إلي سلام عادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وبين السوريين واللبنانيين والإسرائيليين وصولا إلي سلام شامل يحقق نهاية للصراع العربي الإسرائيلي, كما جدد التزامه بقيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للنمو ذات تواصل جغرافي تنهي احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية التي احتلتها عام67, تعيش جنبا إلي جنب إلي جوار دولة يهودية في إسرائيل, وأكد بوضوح قاطع رفض الولاياتالمتحدة لمشروعية الاستيطان الإسرائيلي علي أرض الضفة, كما طالب الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بالدخول فورا ودون إبطاء في مفاوضات الحل النهائي المتعلقة بقضايا القدس والحدود واللاجئين وأمن إسرائيل. لكن رؤية أوباما التي اعتبرت سيطرة إسرائيل علي أرض الضفة احتلالا ينبغي إزالته, وليست نزاعا علي أرض يختلف الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي حول ملكيتها كما تدعي إسرائيل, تركت عديدا من الأسئلة الصعبة دون إجابات شافية, تغني عن تكرار خطأ الوقوع في فخ المماطلة والتسويف وتحدد سقفا زمنيا واضحا لهذه المفاوضات يضمن جديتها, وجدولا محددا لتوقيتات التنفيذ ومراحله وترسم آلية واضحة لمتابعة التنفيذ وتفرض علي كل الأطراف مرجعية محددة يمكن الرجوع إليها إن عجز الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي عن تسوية نزاعهما حول أي من مشكلات الحل النهائي. ولا يبدو واضحا من كلمات أوباما, إن كان الرئيس الأمريكي قد قفز علي مطلبه بضرورة تجميد كل أنشطة الاستيطان قبل بدء التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني مع التزام واشنطن باعتبار الاستيطان عملا غير مشروع, أم أن المبعوث الأمريكي ميتشيل تسانده وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون سوف يواصل خلال الأسابيع القليلة القادمة محاولاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أملا في إنجاز اتفاق يعلق جهود الاستيطان بضعة أشهر... ولو أن الرئيس أوباما أسقط التزامه بضرورة تجميد الاستيطان لأصبح شأنه شأن كل الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين أدانوا في العلن استمرار بناء المستوطنات, لكنهم أغمضوا عيونهم عمدا وقصدا عن استمرار حكومات إسرائيل المتعاقبة في نشاطها الاستيطاني, إلي حد مكن ما يقرب من نصف مليون مستوطن يهودي من الإقامة في مستوطنات الضفة, التي لم تتوسع بهذا الشكل المخيف علي حساب أراضي الفلسطينيين إلا بعد اتفاقات أوسلو. وأظن أن وقوف الرئيس الأمريكي إلي جوار التزامه بضرورة تجميد كل انشطة الاستيطان قبل بدء التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي يمثل الخط الصحيح الذي يؤكد جدية وصدق التزامه بعملية السلام, ويزيد من قدرته علي فرض إرادته السياسية علي كل الأطراف بمن في ذلك العرب لصالح السلام الشامل الذي يري فيه الرئيس أوباما مصلحة استراتيجية أمريكية تحقق أمن إسرائيل, وتضمن أمن الشرق الأوسط واستقراره, وما من شك أيضا في أن وقوف أوباما إلي جوار هذا الالتزام سوف يقوي يقين كل الأطراف بإمكان نجاح عملية السلام, لأن أكثر ما يخشاه الجميع أن يفتح هذا التراجع الباب لتراجعات أخري عديدة تفشل عملية السلام. ولا يصح الاعتذار عن إسقاط هذا الالتزام الأساسي بدعوي أن العرب لم يقدموا من جانبهم ما يشجع إسرائيل علي وقف جهود الاستيطان, لأن وقف الاستيطان التزام قانوني أساسي لا ينبغي أن يكون محل أي تفاوض أو مراجعة, يشكل أول بنود خارطة الطريق, ولا يستحق مكافأة خاصة من جانب العرب, الذين لا يكتمون عزمهم علي تطبيع كامل علاقاتهم مع إسرائيل فور قيام السلام الشامل, وتحقيق الانسحاب من الأرض العربية التي جري احتلالها عام67, ولأن العرب لا يشكلون عقبة رئيسية أم جهود التسوية الشاملة, لأن جوهر المشكلة يكمن في حكومة يمينية متطرفة تحكم إسرائيل, صاغها بنيامين نيتانياهو علي هواه قصدا وعمدا ليجعل منها الذريعة التي تبرر مماطلته في تنفيذ التزامات أساسية يتعين الوفاء بها لتحقيق السلام الشامل. ومالم يقدر أوباما علي مواجهة جوهر المشكلة التي تتمثل في رغبة اليمين الإسرائيلي في الاستيلاء علي أغلب أراضي الضفة تحت دعاوي توراتية كاذبة رغم أنها أرض محتلة, متسلحا بمساندة الشعب الأمريكي, ووقوف الرأي العام العالمي إلي جواره, وحماس الأممالمتحدة لمشروعه في إقامة السلام الشامل فسوف يزداد ضعفا, ولن تمكنه جماعات الضغط الصهيوني من نجاح أي من الأهداف التي يسعي لتحقيقها, وربما تسعي لحرمانه من فترة حكم ثانية. ولست أعتقد أن تنازل أوباما عن موقفه بضرورة تجميد أنشطة الاستيطان سوف يجعل رئيس الوزراء الاسرائيلي أقل عنادا في تعويقه لمباحثات المرحلة النهائية, علي العكس سوف يثير نتانياهو المشاكل والعقبات واحدة تلو الأخري, إبتداء من الاختلاف علي نقطة بداية التفاوض, وهل ينبغي أن نبدأ المفاوضات الجديدة من حيث انتهت مفاوضات الرئيس الفلسطيني ومحمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق يهود أولمرت أم يبدأ الجانبان مفاوضاتهما, وكأن شيئا لم يحدث من قبل, فضلا عن اعتقاد معظم قادة الليكود بأن قيام الدولة الفلسطينية أمر أكثر تعقيدا يتطلب المزيد من الوقت والمزيد من الاستعداد ولايمكن أن يتحقق الآن. وما ينبغي أن يدركه الرئيس أوباما أن فشل جهود التسوية بسبب عناد نتانياهو بعد كل الآمال التي أطلقها الرئيس الأمريكي حول التزامه بالتسوية الشاملة سوف يكون له عواقب وخيمة أولها انفجار العنف مرة أخري في الشرق الأوسط بصورة غير مسبوقة وتطويق تيار الاعتدال وحصاره بصورة غير مسبوقة. لقد خصص أوباما الجزء الأهم والأطول من خطابه أمام الجمعية العامة لمشكلة الصراع العربي الإسرائيلي, وما من شك في أنه يدرك أن هزيمة مشروعه لسلام الشرق الأوسط تحت ضغوط جماعات الضغط الصهيونية وتأثيرها علي مواقف الكونجرس, وتواطؤ حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل التي تريد إفشال مشروع السلام تعني نهاية مشروعه للتغيير, لأن سلام الشرق الأوسط والحفاظ علي مصداقية الولاياتالمتحدة, واحترام توازن مصالح كل الأطراف يمثل جوهر هذا التغيير وصلبه ومعناه.. وإذا كان أوباما يري الآن أن الأممالمتحدة يمكن أن تكون إطارا صحيحا لعمل دولي مشترك يعزز السلم العالمي, ويحقق ازدهار كل الشعوب, فما الذي يمنعه من ان يحيل قضية الشرق الأوسط الي مجلس الأمن باتفاق مع الرباعية الدولية إن رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي جهود التسوية العادلة, شريطة ألا تستخدم واشنطن الفيتو الأمريكي لحماية احتلال إسرائيل للأرض العربية؟! وقبل عدة أيام كتب المعلق الأمريكي جيم هوجلاند مقالا مهما في الواشنطن بوست متسائلا فيه, هل ضعف الرئيس الأمريكي بسبب زحام المشاكل الضخمة التي يواجهها وعدم حماس حلفائه في الخارج لدعمه في الحرب الأفغانية, وظهور بدايات تفكك في حزبه الديمقراطي, اضافة الي الخوف المتزايد من جانب عدد من قادة العرب من فشل مشروعه لإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟!, وهل أثر التريث في استخدام سلطته ونفوذه لإنجاح برنامجه في التغيير الذي لا يزال يحظي بمساندة واسعة داخل الولاياتالمتحدة وخارجها؟! والحق أن أوباما يقف الآن أمام خيارين أساسيين: أولهما أن يمتثل لهذه الضغوط ليصبح مجرد فلتة في تاريخ عابر غير قابل للتكرار, أو يقف بصلابة إلي جوار مشروعه الذي لا يزال يحظي بمساندة عالمية واسعة ليصبح بصمة قوية في التاريخ الأمريكي, يصحح مسار الولاياتالمتحدة الخاطئ الذي جعلها موضع كراهية كل شعوب العالم وأفقدها مصداقيتها وأضعف إمكاناتها علي قيادة العالم, ويصحح معه مسار العالم أجمع, يعيد الاحترام إلي الشرعية الدولية وينهي المعايير المزدوجة ويعيد الاعتبار إلي الأممالمتحدة كمنظمة عالمية, تنتصر للعدالة والقانون وحقوق الإنسان, تنهي بؤر الصراع وتحفظ السلم الدولي, وتعزز ديمقراطية العلاقات الدولية, وتبني تحالفا دوليا واسعا يقدر علي مواجهة التحديات الأربعة التي اعتبرها أوباما بحق الأساس الصحيح لبناء عالم جديد أكثر أمنا ورخاء. الاهرام *