الصراع في العراق أساساً سياسي وإن تم التعبير عنه بالعنف وحالة عدم الاستقرار الأمني الذي يعيشه منذ الغزو في مارس 2003. الحكومة العراقية التي تشكلت عقب الانتخابات التشريعية في نهاية 2005 وتمارس السلطة برئاسة نوري المالكي كانت تكمن في داخلها عوامل عدم استقرارها. في البداية سيطر الشيعة والأكراد على الجمعية الوطنية وحاولوا تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الأحزاب والقوى الشيعية والأكراد والعرب والسنة ( من باب التأكيد على الوحدة الوطنية الهشة في البلاد )، رغم ما بين هذه القوى من صراعات سياسية تتفاوت في ما بينها، من القوية: كما هو موجود في التكتل الشيعي.. والأكثر تماسكاً: كما هو حاصل بين التكتل الكردي.. والأقل تمثيلاً ومشاركةً في الحياة السياسية: كما هو ظاهر وجلي في تكتل القوى الليبرالية والعربية السنية والأحزاب الإسلامية غير الشيعية. كما لا يخفى أهم عوامل عدم الاستقرار في عراق ما بعد الغزو المتمثل في الاحتلال الأجنبي بقيادة الولاياتالمتحدة. في لحظة تاريخية معينة اجتمعت متناقضات الخريطة الجغرافية والسكانية للدولة والشعب في العراق، لتُضاف إلى متغير الاحتلال الأجنبي، لينتج لدينا في النهاية حكومة ضعيفة في المنطقة الخضراء لم تتمكن خلال أقل من نصف مدتها الدستورية أن تثبت كفاءة وفاعلية في تحديات مرحلة ما بعد تقويض نظام صدام حسين. أمنياً: لم يهدأ العراق منذ الساعات الأولى للغزو، إلى الآن، لا بالنسبة الى الحكومة العراقية.. ولا بالنسبة الى الأمريكيين.. ولا الى الشعب العراقي، نفسه. سياسياً وإدارياً: فشلت حكومة المالكي لأكثر من سنتين في الحكم أن توفر الحاجات الأساسية من سلع وخدمات للشعب العراقي: مناطق كثيرة من العراق، وفي بغداد نفسها، مقطوعة عنها الكهرباء، ولا توجد في كثير من مساكن العراق مياه نقية جارية، كما أن محطات الصرف الصحي أُصيبت بأضرار في الحرب، ولم تعد إلى كفاءتها التشغيلية السابقة.. بالإضافة إلى أن العراق فقد أكثر من ثلث إمكاناته التصديرية للنفط، منذ الغزو... وقس على هذا أشياء كثيرة أخرى. هذا بالإضافة إلى استشراء الفساد.. وسوء استغلال السلطة والنفوذ.. والابتزاز المتواصل للحكومة من قبل القوى والتكتلات السياسية، بما فيها تلك المشاركة فيها. حتى بلغ "السيل الزبى" بين حلفاء الأمس في داخل الحكومة والجمعية الوطنية ( الشيعة والأكراد )، بل وحتى بين القوى السياسية الأقوى في عراق ما بعد الغزو ..المُشَكَلة من التكتلات والقوى الشيعية، في داخل منظومة البرلمان والحكومة بزعامة أكبر تكتلين شيعيين في العراق حزب الدعوة الإسلامية، الذي يرأسه المالكي.. وحزب المجلس الإسلامي الأعلى وهو أكبر حزب شيعي ممثل في الجمعية الوطنية، وكان يمثل الملاذ الأخير للحكومة، داخلياً. سياسياً: من ناحية أخرى ساءت علاقة رئيس الوزراء مع أهم حليف آخر للشيعة في الحكومة والبرلمان ( الأكراد)، الذين يطالبون باستقلال أكبر لشمال العراق، خاصة في موارد النفط. وكانت العلاقة قد ساءت بين حكومة المالكي والتيار الصدري والكتل العربية السنية في البرلمان، الذين سحبوا وزراءهم من الحكومة، منذ فترة طويلة. لعله لم يبق للمالكي من دعم له ولحكومته سوى من الأمريكيين الذين لا يرغبون في أزمة سياسية في المنطقة الخضراء ببغداد في سنة الانتخابات الرئاسية... تكفي الأمريكيين مشاكل الحالة الأمنية المتردية في العراق، الذي يبدو أن حملة الرئاسة الأمريكية قد تجاوزتها، بسبب التحسن الأمني النسبي الذي أحرزته استراتيجية الجنرال باتريوس ضمن خطة زيادة القوات في العراق، إلى مشاكل داخلية أكثر اهتماماً للناخب الأمريكي، خاصةً ما له علاقة بالقضايا الاقتصادية. كل هذا يفسر مغزى المهلة التي أعطتها القوى السياسية الثلاث الرئيسية المناوئة للمالكي للعمل على تدارك الأمر وإلا سُيدفع بالأزمة إلى الجمعية الوطنية للنظر في احتمال سحب الثقة عن حكومته، والدفع بمنافسه عادل عبد المهدي لتشكيل حكومة جديدة في المنطقة الخضراء في بغداد. الأزمة السياسية في المنطقة الخضراء من بغداد وصلت إلى مراحل متقدمة من التوتر وعدم الاستقرار، ولم يبق إلا لحظة انفجار البركان.