لم يكن متوقعاً أن يعود نتنياهو إلى رئاسة الوزراء مرة أخرى بعد هزيمته الانتخابية في عام .1999 ولكن ها هو القائد الليكودي اليميني المتطرف وقد فاز بالانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وتم تنصيبه رئيساً لوزراء بلاده للمرة الثانية. ولما كان عمره قد شارف الستين الآن، فهو يبدو أكثر كهولة وأقل حيوية مما كان عليه في ولايته الأولى، بينما يتوقع له أن يواجه تحديات ومهام أكثر تعقيداً هذه المرة. ولكن مع ذلك، لابد أن تكون هذه العودة مرْضية ومفرحة لنتنياهو الذي نُحي من منصبه قبل عقد مضى بعد أن خسر شعبيته وسط الناخبين، وازدراه مثقفو تل أبيب الليبراليون، بينما أصيبت العلاقات بينه وبين واشنطن بالجفوة، بسبب تمنعه عن الانخراط في عملية أوسلو للسلام الإسرائيلي/ الفلسطيني، التي أطلقتها إدارة كلينتون. بيد أن نتنياهو أثبت فيما بعد أنه على قدر كبير من العزم، بدليل أنه أمضى السنوات التي تلت هزيمته وعودته إلى ''الكنيست''، في التخطيط والتدبير لهذا الصعود السياسي اللاحق. وبعد أن استعاد منصبه الذي خسره في أواخر التسعينيات، وتمكن من تشكيل ائتلاف حكومي محيّر من التكتلات اليمينية واليسارية، ها هو يواجه معضلة ذات السؤال المزعج الذي طالما أرقه: من يكون على وجه التحديد؟ هل هو قائد سياسي براجماتي مرن، أم أنه قائد صلب متمسك بمبادئه ويحظى بإعجاب جماهيره؟ أم هو أيديولوجي يميني جامد عنيد؟ وهل يكون قائداً من نموذج نيكسون في الصين، أم يرفض تقديم أي تنازلات للفلسطينيين وينظر إليها على أنها ضعف لا يليق به وبدولته؟ فما هي إجابة نتانياهو نفسه يا ترى عن هذه التساؤلات؟ على مستوى الورق، يبدو الزعيم الليكودي على أشد الوضوح. فهو على عناده وتمسكه بأمن إسرائيل، ورفضه لخدع ''الحمائم'' المثاليين، وفي تصلبه الرافض لتقديم أي تنازلات لنا يصفهم ب''الإرهابيين'' الذين لا يرمون إلا إلى إضعاف إسرائيل وتقويضها. يذكر أن شعبية نتنياهو عادة ما تتزايد في الظروف التي يستفحل فيها قلق الإسرائيليين من العمليات التفجيرية التي تستهدف أمنهم وأرواحهم، ومن خطر الصواريخ التي يطلقها عليهم مقاتلو حركة ''حماس''، أو من تهديد طهران بمحو دولتهم من الوجود. ولكن كيف تترجم هذه المواقف الصلبة إلى ممارسة وحقيقة؟ جواب هذا السؤال لا نزال نجهله حتى الآن. فهو يتعرض لضغوط مكثفة من قبل الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، تهدف إلى حثه على إبرام صفقة سلام مع الفلسطينيين، من شأنها تسوية النزاع المزمن بين الطرفين. ولكنه يتعرض في الوقت نفسه لضغوط لا تقل كثافة ولا شدة من جانب اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يطالبه بعدم الإذعان والتمسك بموقفه الرافض لأي تفاوض سلمي مع الفلسطينيين. وما يلاحظ هو أن نتنياهو وعد بمواصلة محادثات السلام مع الفلسطينيين بهدف التوصل إلى تسوية معهم، إلا أنه وصف في الوقت نفسه المحادثات التي ترعاها الولاياتالمتحدة بأنها مجرد ''إهدار للوقت'' مصحوباً بإعلانه عدم التزامه بحل الدولتين الذي تؤيده واشنطن والاتحاد الأوروبي. وليس في هذا الموقف جديد يختلف عما كان عليه موقفه وسياساته في ولايته الأولى. فقد أبدى حينها تردداً إزاء التفاوض مع عرفات، في بادئ الأمر. إلا أنه صافحه في نهاية الأمر وجلس معه إلى طاولة المفاوضات. وتحت تأثير الضغوط الدولية المكثفة التي تعرض لها حينذاك، وافق نتنياهو على مقايضة الأرض مقابل السلام مع الفلسطينيين، غير أنه جرجر أقدامه، وتنصل من تلك الاتفاقيات ولم يلتزم بأي من الوعود التي قطعها على نفسه فيها. وهناك من يرى أن بوسع المرء أن يعرف كل ما يريده عن نتنياهو بدراسة شخصية والده. ولمن لا يعرف والده ''بنزيون نتانياهو'' فهو يميني متطرف، عمل سكرتيراً شخصياً لفلادمير جابوتنسكي، الزعيم الصهيوني المتعصب، خلال الفترة السابقة لتأسيس الدولة الصهيونية، قبل أن يعمل أستاذاً للتاريخ اليهودي فيما بعد، وقد ناهز عمره المئة عام الآن. يذكر أن نتنياهو الأب كان قد لخص وجهة نظره في مؤلفه التاريخي المعروف عن محاكم التفتيش الإسبانية. ومما ورد من آرائه في ذلك الكتاب ألا منجاة لليهود من كره العالم لهم، حتى وإن اعتنقوا الأديان الأخرى وكيفوا أنفسهم على تقاليد دينية واجتماعية وثقافية مختلفة عن تقاليد عقيدتهم. ومما يراه ''أنه لا حد لطموح العرب وعزمهم على تقويض دولة إسرائيل. وفيما لو سنحت لهم الفرصة فلن يترددوا في محونا من وجه الأرض''. ولكن الذي ينبغي تأكيده هنا هو أن نتنياهو الابن ليس كأبيه. فقد ولد الأب في وارسو في بدايات القرن العشرين، بينما ولد ابنه في تل أبيب في عام .1949 وفي هذا الاختلاف وحده فارق جوهري. والمقصود بهذا انتماء الابن إلى جيل حرب ،67 وهو جيل صهيوني حديث ''متأمرك'' ولم يتشكل وعيه السياسي تحت تأثير ''الهولوكست''. ثم إنه لا يزال أول رئيس وزراء إسرائيلي يولد بعد تأسيس الدولة العبرية. صحيح أن نتنياهو الابن يختلف عن أبيه في أمور كثيرة جداً. ولكن له فضائحه وورطاته وخيباته السياسية الكبيرة، وليس أقلها أسباب هزيمته المدوية في عام .1999 ومما لا ريب فيه أنه يواجه اليوم ظروفاً وتحديات أكبر وأكثر تعقيداً مما واجهه في ولايته الأولى. ولئن كان قد رفض التفاوض مع عرفات، فهو يتوقع أن يكون أشد رفضاً وعناداً في التفاوض مع حركة ''حماس''. والمشكلة أن ائتلافه الحكومي يغلب عليه اليمين وليس اليسار. فكيف له أن يواجه الضغوط الداخلية والخارجية على حكومته؟ هذا ما ستشكف عنه الشهور القليلة المقبلة.