الأهرام: 20/10/2008 بدعوة من د. محمد عبداللاه( أمين لجنة العلاقات الخارجية بالحزب الوطني), وبحضور السيدة عائشة عبدالهادي وزيرة القوي العاملة والهجرة وعدد من العقول المصرية المهمومة بقضايا المصريين بالخارج, شهدت إحدي قاعات الحزب الوطني نقاشا حضاريا حول الوجود المصري في الخارج, وكيفية تفعيله والأهم هو وضع نهاية حقيقية وجادة لأوضاع المغتربين الذين بات راسخا في أذهانهم أن مصر الوطن الأم لا تهتم بهم ولا تلقي لهم بالا, وتتعامل مع خروجهم من مصر وكأنهم خرجوا من الحياة بكاملها.. وللإنصاف يجب أن نذكر أن الدكتور عبداللاه قد رسم إطار المناقشة بتقديم مزج فيه بين خبرته كمغترب سابق( عندما أمضي عدة سنوات في باريس بين دراسة وعمل), وبين علاقاته بعدد كبير من المغتربين, ونفر من البرلمانيين الأوروبيين في بلاد المهاجر, وكانت الورقة التي أعدها هاني عزيز مستشار الاتحاد العام للمصريين بالخارج والتي أوجز فيها ببراعة رؤيته العلمية لكل ما يفرزه الواقع الاغترابي الذي استلهمه الحاضرون في نقاشاتهم مع وزيرة القوي العاملة, التي تحدثت بشفافية مست شغاف القلوب, فأشارت الي زيارتها المتكررة لعدد من دول المهجر ولقاءاتها مع المغتربين وسعيها الي حل جملة من المشكلات التي كانت مستعصية لبعض المهاجرين المصريين.. والحق أن قضية المصريين المغتربين والبالغ عددهم نحو ستة ملايين بدأت ربما لأول مرة توضع في مكانها الصحيح وبحجمها الطبيعي دون تهويل أو تهوين.. ولم تعد هي القضية( المهملة) التي يعاف المسئول عن الخوض فيها أو الحديث عنها واعتبارها( ترفا), فلقد امتدت إليها( يد) الحزب الوطني من منطلق قناعته بأن المغتربين هم امتداد حقيقي لمصر, ومن ثم يتعين توظيف هذا الامتداد ليكون فاعلا ومؤثرا, ليس با لنظر الي( عوائد) المغتربين المالية والعينية ولكن أيضا لأنهم يشكلون وهذا هو الأهم جبهة وطنية مخلصة تمثل مصر في الخارج, وتدافع عن قضاياها في الداخل.. وأشهد أن حديث وزيرة القوي العاملة والهجرة كان حديثا مقنعا, لأنه استند الي حقائق جرت بالفعل وعن اتفاقات تنتظر التوقيع النهائي في خلال أسابيع قليلة, فضلا عن أنه ينطلق من وقائع لا مجال للتشكيك فيها, ومن اعتراف بالتقصير في السنوات الماضية, وتأكيد بطي الصفحة القديمة وكتابة صفحة أخري بأقلام وعقول وأفكار المغتربين أنفسهم.. فالمغترب لم يعد سقط متاع وانما أصبح حاضرا.. ومشاركا.. وفاعلا وقد أفشي سرا جميلا اذا قلت إن السيدة عائشة عبدالهادي قد ذكرت أنها تحدثت الي السيد جمال مبارك أمين عام مساعد الحزب الوطني وأمين السياسات عن مطلب غال وثمين للمصريين في الخارج, والخاص بالمشاركة السياسية, وأوضحت أن هذه المسألة قد حسمت فعلا لا قولا, وتم ادراج المصريين في الخارج ضمن عمليات الاستفتاء التي تجري في مصر لتأكيد حقهم في الممارسة السياسية, علي أن يتم تنظيم باقي المشاركات السياسية الانتخابية أو غيرها في القادم من الأيام... والمعروف أن المصريين المغتربين يرون أن الحراك السياسي الذي شهدته مصر في السنوات القليلة الماضية, سيظل معيبا وقاصرا اذا لم يفسح المجال أمام المغتربين لمشاركة سياسية فعالة وايجابية, خصوصا أن أمرا كهذا تمارسه دول عربية أخري تسبقنا في مجال الهجرة مثل المغرب والجزائر وتونس, وبالتالي لم يعد مبررا أن تغفله مصر خصوصا في هذه المرحلة السياسية الناجحة التي تعيشها اليوم.. واتضح لي من خلال النقاش الليبرالي الايجابي الذي استمر نحو ثلاث ساعات, أن هناك مشروعا يعد حاليا لضمان تمثيل المغتربين في مجلس الشعب, وتحدثت الوزيرة عن تصورها بأن تكون هناك نسبة من المغتربين( لا تقل أو تزيد) كما هو حال نسبة تمثيل المرأة في البرلمان.. وفي ظني أن هذا الأمر سيكون خطوة مهمة نحو تكريس الديمقراطية وتأكيد أن المواطنة لم تعد ممارستها حكرا علي من يعيشون فوق التراب الوطني وداخل الإطار الجغرافي المعروف لمصر, وانما يتجاوز ذلك التكريس حقيقة أخري, هي أن مصر وطن يعيش في داخلنا فنحمله معنا أني ذهبنا أو ارتحلنا.. ولابد أن اعترف بأن الحديث المتشعب مع وزيرة القوي العاملة والهجرة تناول عدة أفكار استجابت لها علي الفور, برغم أن بعضها كانت تنحي باللائمة علي المسئولين عن تنظيم سوق العمل داخل مصر, باعتبار أن ذلك يشكل رافدا أساسيا لمشكلة عمل المصريين في الخارج.. وجاء ذلك تعليقا علي ما ذكرته الوزيرة بشأن الاتفاقات التي وقعتها مع ايطاليا والتي تتيح فيها الأخيرة8 آلاف فرصة عمل أمام المصريين, وكذلك الاتفاقية التي ستوقع مع فرنسا في ديسمبر المقبل وتشتمل علي قائمة بها48 تخصصا تطلب فيها باريس أيادي عاملة مصرية.. وكان لابد للنقاش أن يعرج علي قضية الهجرة غير الشرعية التي باتت تمثل( صداعا مزمنا) في رءوس الأوروبيين خصوصا بعد أن اختلطت في جانب منها مع الهاجس الأمني وقضية الإرهاب, ولقد زادت وطأتها مع تفشي ظاهرة الاسلاموفوبيا, والارتياب في كل من هو عربي أو مسلم بعد أحداث11 سبتمبر في أمريكا والزعم بأن المغتربين لا هم لهم سوي( أسلمة أوروبا), وادخال الشعوب الأوروبية عنوة الي الدين الإسلامي.. ومعظمها أفكار ظالمة ومغلوطة, لكن المؤسف أنها تحتل مساحة في تفكير الأوروبيين.. وهو ما يفرض التعامل معها بدراية وحنكة لا تأتي بنتائج عكسية, وتوقف النقاش طويلا أمام قضايا أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين, والسعي الي ربطهم بالوطن الأم علي غرار جاليات أخري مثل الجالية اليهودية. واذا علمنا أن الأرقام الموثقة تؤكد أن هناك2455 عالما مصريا في أهم التخصصات الحرجة والاستراتيجية مثل الطب النووي والعلاج بالاشعاع, وجراحة القلب والهندسة النووية واستخدامات أشعة الليزر الي جانب المئات من الخبراء في مجالات العلوم الإنسانية والفيزياء الذرية وعلوم الفضاء والزلازل والزراعة والهندسة الوراثية واقتصادات السوق والعلاقات الدولية.. وأن الولاياتالمتحدة بها نحو318 ألف مصري متميز و110 آلاف في كندا, و70 ألفا في استراليا و336 ألفا في دول أوروبا المختلفة.. وهذه أرقام مهمة, وتحتل مواقع مؤثرة, ولذلك تعتبر( زخما) حقيقيا لمصر العلمية والسياسية في الخارج.. وأعترف أن ما سمعته عن انتهاء قضية الموت خارج الحدود قد أثلج صدري, فالثابت أن هذه القضية كانت صعبة ومشينة لأنها كانت تضر بصورة المصريين في الخارج ضررا بالغا, اذ كان يترك جثمان المصري المتوفي لحين جمع تبرعات وصدقات إما لدفنه في الخارج أو إعادة جثمانه ليدفن في أرض الوطن.. ولقد أكدت وزيرة القوي العاملة والهجرة أن مرسوما قد صدر منذ فترة ويقضي بأن تتكفل الدولة بتكاليف إعداد وتجهيز ونقل جثمان المصري المغترب وعودته الي مصر, وان الإجراءات التي تتخذ في هذا الإطار بشأن قدرته علي الدفع هي من قبيل الإجراءات الشكلية لأن هذا الأمر بات من أهم مسئوليات وزارة الخارجية.. يبقي أن أذكر أن شعورا عاما( وحقيقيا) بتنا نلمسه في داخلنا وهو أن مشكلات المصريين المغتربين بدأت توضع في مكانها الصحيح في عقل وضمير الأمة المصرية.. وأننا إزاء مرحلة جديدة تعترف فيها مصر( بأمومتها) لهؤلاء الأبناء الغائبين عن الوطن جسدا لكن أرواحهم وأصواتهم تشاركنا الآلام.. وكذلك الآمال والطموحات..