الجمهورية 17/8/2008 لم يعد التحول الديمقراطي نهجاً اختيارياً تنتقيه الجماعة السياسية طوعاً من بين بدائل أخري لمباشرة شئون الحكم والإدارة. بل صار حتماً تاريخياً فقد دهمت رياح الديمقراطي بنية المجتمع الدولي المعاصر وعصفت بأعتي النظم الشمولية وغدت تهدد مواقع كثيرة من معاقل النظم السلطوية والدكتاتوريات العسكرية التي غشيت بلدانا كثيرة منذ أمد بعيد مبشرة بانتصار نضال الشعوب من أجل انتزاع حقوقها المشروعة في الجرية وسعيها المتواصل من أجل سيادة هذه القيم في ساحة العمل السياسي الأمر الذي من شأنه الإسهام جدياً في تطوير بنية العملية السياسية وتحديث آلياتها. وكفالة أسباب التطوير السياسي المطرد وضمان استمراره مما ساهم في اتساع نطاق التحولات الديمقراطية في عالم اليوم. واقتحام تيار الفكر اليبرالي حصون الجمود والانغلاق الذي شكل توجهات القوي السياسية التقليدية ودفع "فرانسيس فوكوياما" إلي إعلان مقولته الشهيرة "إن الديمقراطية الليبرالية تشكل خاتمة مطاف التطور الأيديولوجي للإنسانية والصيغة الأخيرة لنظام الحكم البشري المنشود وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ". ومن ثم سادت أدبيات العلاقات الدولية العديد من المفاهيم والاتجاهات والآراء عكست بيئة التفاعل الدولي. فبعد أن كانت مفاهيم مثل الصراعات. والنزاعات. الثورية. القمعية سائدة طوال قرون عديدة بسبب الظروف الدولية التي جسدتها الحروب العاليمة. ظهرت مفاهيم أخري مثل الحرية. التعاون السلمي الدولي. الانفتاح. والإصلاح السياسي. والديمقراطية تسود لكي تعبر عن واقع جديد يعكس جنوح المجتعات الدولية إلي تحقيق الأمن والسلم الدوليين وتتطلع إلي مزيد من التقدم والازدهار. وأخذت هذه المفاهيم تنمو وتتعمق بنمو الأحداث الدولية. وكان من الطبيعي أن يستجيب النظام الدولي إلي مثل هذه المفاهيم. إذ غدت ثورة المعلومات وتقنية الاتصالات ووسائل الإعلام حاجة ملحة لكل شعوب العالم المتطلعة إلي التطور التقني والعلمي. وكان لابد لهذه الشعوب أن تسلك سلوك التعاون والاعتماد المتبادل سبيلاً لتحقيق أهدافها وبناء ديمقراطية جديدة قائمة علي احترام الرأي والرأي الآخر. وان تتخلص من جميع القيود المفروضة عليها سواء من قبل الحكومات الثورية والتسلطية التي كانت تمارس عليها سياساتها التعسفية أو من قبل البلدان المستعمرة. وتؤكد التجربة يوماً بعد الآخر أن التطور الديمقراطي السلمي هو الإطار الأمثل للتقدم والاستقرار. فلم يعد من الممكن أن تتقدم المجتمعات أو تتطلع إلي مستقبل أفضل مالم تشارك الشعوب في ذلك بجهد جماعي منظم. وتتحق هذه المشاركة من خلال الديمقراطية باعتبارها صيغة سلمية لإدارة الخلاف وممارسة الصراع في المجتمع. وليس من شك أن وجود حياة ديمقراطية بالمفهوم الليبرالي غير ممكن دون مشاركة المواطنين كافة. من خلال ممثليهم المنتخبين في صناعة القرارات السياسية علي مختلف أنواعها من ناحية وتداول السلطة فيما بين ممثلي القوي الاجتماعية في الساحة السياسية من ناحية أخري. فالتحول نحو الديمقراطية أصبح أمراً حتمياً تقتضيه طبيعة المرحلة الراهنة في ظل المتغيرات الدولية التي شهدتهاعملية العولمة. وإن كانت هذه المتغيرات الجديدة والآثارة والنتائج المترتبة عليها تدفع باتجاه التطور نحو ذلك كضرورة موضوعية وكشرط لازم للقدرة علي التعامل مع هذه المتغيرات وآثارها ونتائجها. فإن السؤال المنطقي الذي يبرز هو عن عن أي ديمقراطية يتحدثون؟ وهل من الممكن تحقيق الديمقراطية دون وجود ديمقراطيين مستعدين للدفاع عنها؟ الذي لا يفطن إليه الكثيرون أن الديمقراطية ليست فقط إتاحة أوسع الفرص للمشاركة في صناعة القرارات الوطنية. وفسح المجال لتداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب. وإنما هي أيضا أنجح السبل لتحقيق أكبر قدر من التجانس والاندماج في المجتمع. وبالعودة للتاريخ الأوروبي الحديث يتضح أن الليبرالية كانت ابرز أدوات تحول المجتمعات الأوروبية من التجزئة الإقطاعية إلي الدول القومية. ولقد كان في مقدمة اهتمامات دعاة الديمقراطية والنشطاء سياسياً واجتماعياً لتأصيلها. والتأكيد علي مساواة المواطنين أمام القانون. وإلغاء كل التمايزات فيما بينهم باعتبارهم شركاء مسيرة ومصير. أما بالنسبة لإمكانية تحقيق ديمقراطية دون وجود ديمقراطيين مستعدين للدفاع عنها فإنه لم يشأ أن تحققت الديمقراطية دون وجود ديمقراطيين نشطاء يدافعون عنها حيث روجت العديد من الكتابات أن ضعف التطور الديمقراطي ناتج عن العديد من القيود القانونية المفروضة من البداية والبيئة المحيطة به. ولكن هذا جانب من الجوانب فأين الجانب الآخر؟ بالطبع يتضح الجانب الآخر في ضعف وسوء أداء النخبة السياسية والذي أثر بدوره سلباً علي التطور الديمقراطي. ومن ثم فشرط وجود الديمقراطية ونموها هو وجود نخبة ديمقراطية واعية تسمح لمؤشرات التطور الديمقراطي من حقوق إنسان وحرية صحافة وانتخابات حرة نزيهة..... إلخ أن ترتقي لاستقرار وازدهار المجتمع في نهاية الأمر. ولكن ما جري في مصر منذ الثمانينات لم يكن تطوراً بطئ الإيقاع. ولكنه كان تطوراً سريعاً لأوضاع أكثر ديمقراطية في المجالس النيابية والتي حظيت بوجود أكبر لقوي المعارضة وفي النقابات المهنية التي عرفت في نفس العقد انتخابات حرة. ومن ثم فإن مصر تشهد حراكاً سياسياًَ فاعلاً ساهم في حدوث انفراجه ديمقراطية بشكل أوسع مما كان عليه في العهود السابقة. ولكن هل سيؤدي هذا الحراك السياسي بالضرورة إلي حالة من التحول الديمقراطي؟ وكيف يمكن توصيف ما يحدث الآن علي ضوء أدبيات ونماذج التحول الديمقراطي التي تحققت في دول أخري في أوروبا الشرقية وأسيا وأمريكا اللاتينية؟ الإجابة المباشرة علي هذا التساؤل هي أنه ليس كل التحولات السياسية بالضرورة إلي تحقيق الديمقراطية في نهاية الأمر. فمن مجموع مايقرب من مائة دولة مرت بحالة التحول من نظم تسلطية إلي نظم أكثر انفتاحاً خلال السنوات القليلة الماضية. تمكنت عشرون دولة منها فقط في المضي في بناء نظم ديمقراطية ناجحة. بل أن الحالة الشائعة بين الدول التي بدأت مسيرة الانفتاح السياسي هي ما يطلق عليه "توماس كاروثرس" TOMAS CAROTHERS حالة "المنطقة الرمادية" أي فترة ما بين الديمقراطية الكاملة والديكتاتورية الفجة وهي فترة تبدأ بالانفتاح السياسي للنظام التسلطي والانتقال لتأسيس نظام جديد مستقر ليس ديمقراطياً بالضرورة. وعادة ما يأتي هذا التحول الفوقي كنتيجة لإحساس النخبة السياسية الحاكمة بنقص شرعيتها وصعوبة استمرارها في انتهاج سياسات قمعية لمدة طويلة دون مشروعية أو نتيجة للضغوط المتصارعة في المعارضة الداخلية والمجتمع الدولي. أو بسبب أزمات اقتصادية تؤثر علي استقرار النظام أو لحاجة النخب الحاكمة لضمان استمراريتها وبقائها في السلطة لفترات أطول علي أساس جديد من الشرعية وفي مثل هذه الحالات لا تكون الديمقراطية هي القيمة العليا وإنما الحاجة إلي التقليل من الضغوط علي النخب الحاكمة واكتساب رضاء ودعم القوي الخارجية. ويري أنصار نظرية السلام الديمقراطي أن الدول ذات النظام الديمقراطي تعيش في علاقات سلمية دولية أو بعبارة أخري الديمقراطية علي افتراض اقتصادي يؤكد عي أهمية التجارة في المساعدة علي ذلك. حيث أن التجارة تساعد علي النمو الاقتصادي وأن التنمية الاقتصادية تؤدي إلي رفع مستوي التعليم. ومن ثم التغيير في الثقافة السياسية والمواقف السياسية كما أن التنمية الاقتصادية تؤدي إلي خلق طبقة متوسطة لها تطلعات سياسية تستطيع أن تقود عملية الديمقراطية وتحقق هدف الإصلاح السياسي المنشود في آن واحد. فالديمقراطية ليست نظاماً يتسم بالكمال المطلق. ولكنها عملية تخضع للتطور المستمر وأنه لا يوجد نظام موحد للدمقراطية. لذا فإن النظم الديمقراطية يمكن أن تعكس ثقافات وحضارات مختلفة. كما أنها تأخذ عدة أشكال. ولكن بالرغم من هذا التنوع فإن هناك مبادئ مشتركة بين جميع المجتمعات الديمقراطية الناجحة. حيث تزداد معظم هذه المقومات الديمقراطية في التشريع وفي الممارسة من خلال قبول النظام السياسي مبدأ التعددية السياسية في شكل أحزاب سياسية. وفي الواقع أن تحقيق الديمقراطية ليس أمراً هيناً بعيد المنال ولكن يمكن تحقيقه والدليل علي ذلك ما تشهده الساحة السياسية في الآونة الأخيرة من جهود مكثفة لم تتوقف سواء من جانب قادة الرأي أو المفكرين والباحثين ورجال السياسية من أصحاب السلطة والذين سعوا إلي تحقيق مهمات التحول السياسي. حيث تشهد هذه الفترة رؤيتان متباينتان حول هذا الموضوع هما: الرؤية الأولي: تري أن مصر تسير بخطي سريعة نحو التحول الديمقراطي وخاصة منذ بداية التسعينات ويدل علي ذلك اتساع هامش حرية الصحافة والإشراف الكامل للقضاء علي الانتخابات العامة والتعديلات الدستورية والقانونية التي جعلت انتخاب رئيس الجمهورية من خلال الاقتراع المباشر والتنافس الحر. وبالتالي فإن مصر تخطو خطوات في سبيل تحقيق الديمقراطية. الرؤية الثانية: تري أن الطريق إلي الديمقراطية مازال طويلاً. وأن هناك عقبات عديدة تعترض عملية التحول الديمقراطي خاصة وأن النظام السياسي المصري يمر بمرحلة تحول صعبة من الشرعية الثورية إلي الشريعة الدستورية. وترجع هذه الصعوبة إلي أن أجيالاً قد نشأت في ظل ثقافة سياسية معينة لا تتوافق وعملية التحول الديمقراطي كما أن هناك ممارسات وتقاليد قد ترسخت في ظل الشرعية الثورية لا يمكن من الناحية العملية التخلص منها بسهولة. إضافة إلي ذلك هناك مصالح قوية قد تشكلت في ظل الشرعية الثورية ولابد أن تقاوم أي تغيير من شأنه أن يضر بها أو يمس مصالحها. ومن ثم فعملية التحول إلي الشرعية الدستورية تواجه صعوبات جمة تتمثل في عدم توافر الساسة القادرين أو الكوادر السياسية القادرة علي التعامل مع متطلبات هذا التحول. والافتقار إلي إطار ملائم من الثقافة السياسية الداعمة للتحول ولهذا فمستقبل التحول الديمقراطي مرهون بالقضاء علي هذه المعوقات. من ذلك نخلص إلي أن المظاهر العديدة للإصلاح السياسي تعني حدوث عملية تغيير واسعة النطاق ومتعددة المستويات ويعتبر التحول الديمقراطي أحد تجلياتها أو أحد صورها. حيث يشير التحول الديمقراطي إلي تغيير في إدارة العملية السياسية. ومن خلال هذا التغيير يمكن أن تبرز قيادات سياسية خلاقة جديدة تلك ضرورات لا مفر منها لتطوير النظام السياسي الراهن. وقد يقع جانب من مسئولية تحقيقها علي عاتق أحزاب المعارضة. وهكذا يظل مستقبل التحول الديمقراطي وتجربة الإصلاح السياسي برمتها مفتوحة لاحتمالات متعددة. الكاتب:"أستاذ علم الإجتماع السياسي كلية الآداب- جامعة طنطا" المزيد من الأقلام والآراء