الحياة: 11/8/2008 يخطئ ميخائيل ساكاشفيلي كثيراً اذا كان يعتقد بأن عقارب الساعة تعود الى الوراء، وان العام 2008 الذي نحن فيه هو العام 1979. لا ديمتري ميدفيديف هو ليونيد بريجنيف، ولا رئيس جورجيا الحالي هو صورة «المجاهد» الافغاني الذي دفعت القوى الغربية بأموالها واسلحتها لدعمه في وجه الغزو الشيوعي. صحيح ان دبابات موسكو وطائراتها لم تتحرك بهذه الكثافة خارج حدودها منذ الغزو السوفياتي لافغانستان قبل 30 سنة، لكن العالم تغير منذ ذلك الوقت، والكرملين تغير ايضاً. من علامات التغير التي يجب الانتباه إليها أن عالم اليوم ترعاه المصالح قبل العقائد. لهذا تبدو اللغة التي تستخدمها جورجيا عند حديثها عن «استعادة» اقليم أوسيتيا لغة قديمة. فمنذ قبول الغرب بدور للقوات الروسية الى جانب قوات جورجيا في ذلك الاقليم بهدف الحفاظ على الأمن فيه بعد الحرب الداخلية التي نشبت في اعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، كان واضحاً ان اسلوب التعامل مع المصالح الروسية في القوقاز وحوله هو اسلوب مختلف عن ظروف الحرب الباردة. واذا كان الموقف الاوروبي في قمة الحلف الاطلسي الاخيرة، المتحفظ على طلب جورجيا الانضمام الى هذا الحلف دليلاً، فإنه يجب ان يفهم منه مدى الرغبة الغربية العامة في اخذ المصالح الروسية في الاعتبار، وخصوصاً في الدائرة الصغرى القريبة من نفوذ موسكو، والمتمثلة خصوصاً في النزاعات في القوقاز والشيشان. ما يعنيه هذا أن مطالب جورجيا المتعلقة بما تعتبره «أقاليمها»، سواء في أوسيتيا او ابخازيا او أجاريا الملاصقة للبحر الأسود والحدود التركية، هي مطالب يخضع دعمها من قبل الغرب للمقايضة مع موسكو في ملفات اخرى، حيث يحتاج العالم الى الدعم الروسي، وابرز هذه الملفات التعاون في مواجهة كوريا الشمالية، والملف الايراني الساخن على نار استمرار التخصيب. تضاف الى ذلك حاجة الدول الاوروبية الى الطاقة الروسية، بعد ان بات استمرار تدفق الغاز الروسي الى هذه الدول على درجة من الاهمية لا يوازيها سوى استمرار تدفق النفط الى مصافي الغرب عبر مضيق هرمز. صحيح ان الامبراطورية الروسية تعرضت لنكسة تاريخية في حادث الانهيار المدوي سنة 1991. وصحيح انها تراجعت عن «مستعمراتها» السابقة في اوروبا الشرقية وحتى عن المثلث المطل على البلطيق (ليتوانيا - لاتفيا - استونيا). لكن هذه الدول كانت كلها تملك صفات استقلال، تزيد او تنقص، حتى في ظل الاتحاد السوفياتي. الا أن نظرة موسكو الى جورجيا مختلفة، ولا يخفف من الشكوك حولها كون ساكاشفيلي هو صديق جورج بوش، كما أنه الرئيس الذي «خلع» ادوارد شيفارنادزه، آخر وزراء الخارجية في الامبراطورية السوفياتية البائدة. ولا يخفف من هذه الشكوك ايضاً التهويل الغربي الدائم بقرع أبواب روسيا عسكرياً، سواء بالدرع الصاروخية او بامتداد الحلف الاطلسي الى حدودها. ولعل اثبات الوجود العسكري الروسي الذي نشهده اليوم في معارك القوقاز المحتدمة هو الرد الطبيعي على قرع الابواب هذا. ان تكون الشرارة الاخيرة في حروب القوقاز قد اشتعلت في اليوم الذي كان فيه العالم يندفع الى الصين، أحد آخر معاقل الشيوعية، لاعطائها مجد استضافة الالعاب الاولمبية، من دون أي مقاطعة، وعلى عكس الطريقة التي تعامل بها العالم مع موسكو بعد غزو افغاستان، هي دليل آخر على النظرة المختلفة الى صورة العالم الذي نعيش فيه. عالم تستحق منه اوسيتيا الجنوبية، ربما، التفاتة انسانية الى ضحايا الدمار الذي اصاب مدنها والمهجرين الذين فروا منها، لكنها لن تدفع العالم بالتأكيد الى مواجهة شاملة مع موسكو، بسبب الصراع مع جورجيا على هذا الاقليم.