المصري اليوم: 22/6/2008 تسرب امتحانات الثانوية العامة وحالات الغش الجماعي، وتورط مسؤولين بوزارتي الداخلية والعدل في فضيحة امتحان أنجالهم في لجان خاصة، كل هذه الأمور لا تكشف عن مجرد فشل وزارة أو وزير واحد هو وزير التربية والتعليم، بل تفصح عن معالم انقلاب تديره حكومة رجال الأعمال في مصر علي البيروقراطية المصرية التي ظلت رغم كل سلبياتها وآفاتها أداة من أدوات حماية مبدأ تكافؤ الفرص في المجتمع المصري ومنح الفقراء طرقاً ومعابر للنفاذ إلي الجهاز الإداري في مصر. فمنذ عدة سنوات وهناك خطوات مرتبة من جانب رجال المال للخروج من دائرة الامتلاك إلي دائرة الحكم، وقد كانت في البداية عبارة عن محاولات للتحالف مع رجال السلطة أو النفوذ، ثم تطورت إلي محاولة الجلوس علي مقاعد السلطة مباشرة دون حاجة إلي التحالف مع رجالاتها. والمؤسسة التعليمية - كما يعلم الجميع - هي أكثر المؤسسات الحكومية بيروقراطية في مصر. وقد بدأ النفوذ يلعب دوره - في تفتيت بيروقراطيتها - من خلال «تأشيرة الوزير» التي كان يصر عليها موظفوها للقيام بأي إجراء ضد اللوائح والقوانين كقبول تلميذ تحت السن أو نقل تلميذ من مدرسة إلي أخري. أما المال فقد بدأ في الدخول إلي ملعبها من خلال تفشي وباء الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية والرشاوي الصريحة والمقنعة من أجل تمرير المصالح. وكل أشكال الفوضي التي حدثت في امتحانات الثانوية العامة مؤخراً تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك علي تراجع دور البيروقراطية أمام سلطة المال والنفوذ برضاء كامل من الحكومة!. يشهد علي هذا الرضاء ذلك الاستخفاف الذي تعاملت به الحكومة مع حالة الفوضي الكاملة التي سيطرت علي الامتحانات، حيث اكتفي أغلب المسؤولين بالجلوس في مواقع المتفرجين ولجأ بعضهم إلي إطلاق بعض تصريحات التهدئة للرأي العام، في حين تفرغ بعضهم الآخر لحل مشاكل النادي الاسماعيلي وتشكيل لجنة مؤقتة لإدارته. والسكوت علي هذه الفوضي يعكس رغبة - قد تكون واعية أو غير واعية - من جانب حكومة رجال الأعمال للانتقام من فشل الوزيرين المسؤولين عن التعليم في مصر في تمرير أفكارهما المتعلقة بتطوير التعليم الثانوي وسياسات القبول بالجامعات في المؤتمر القومي الأخير للتعليم، وأبرزها فكرة إلغاء مكتب التنسيق والاستناد إلي مبدأ اختبار القدرات لتقرير الكلية التي يلتحق بها الطالب. فقد أعلن وزير التعليم العالي الدكتور هاني هلال في تعليقه علي هذا الفشل - بنبرة يعلوها الأسي - أنه لن يتم إلغاء التنسيق في الجامعات، وأن مكتب تنسيق القبول بالجامعات والمعاهد سيبقي بشكل مركزي لسنوات مقبلة ولأجل غير مسمي، وأنه ربما يتم تطوير المعايير لأن البعض يري أن الدرجات ليست هي المعيار الوحيد الصحيح، ولكن النظام نفسه سيستمر لأن الأغلبية تراه عادلاً. فقد تصدت البيروقراطية المصرية التي ما زالت تنتمي إلي ثقافة تكافؤ الفرص - أو حتي تتاجر بها - للفكرة وأحبطتها. وليس أدل علي ذلك من موقف لجنة التعليم بمجلس الشوري الرافض لمبدأ إلغاء مكتب التنسيق حتي لا تكون الواسطة - المشفوعة بالمال أو النفوذ - سبيلاً إلي الالتحاق بالجامعات، وتكون اختبارات القدرات وكشف الهيئة وسيلة للفرز الاقتصادي والاجتماعي لمن يلتحق بالجامعات. وقد كان رد فعل العناصر التي تحمي فكرة إحلال المال والنفوذ محل أفكار البيروقراطية ( المدافعة عن مكتب التنسيق ) سريعاً من خلال لخبطة امتحانات الثانوية العامة التي تتصدر أحاديث الناس هذه الأيام، وستكون هذه الأحاديث بيئة جيدة للكلام عن أن المجموع - الذي يعتمد عليه مكتب التنسيق في توزيع الطلاب - ليس مؤشراً موضوعياً في ظل هذه الفوضي التي خلقها رجال الانقلاب (حكومة رجال الأعمال). إن حكومة رجال الأعمال تريد أن تعمل آلات الفرز من خلال اختبارات القدرات (المالية والعائلية والطبقية) للالتحاق بالجامعة بعيداً عن مكتب التنسيق البيروقراطي الذي يتحكم فيمن يدخلون الجامعات الحكومية أو الخاصة، حتي من أبنائهم وأبناء ذويهم الحاصلين علي الثانوية الأمريكية والبريطانية والكندية وخلافه، وبالتالي أصبحت لا تعنيهم الثانوية العامة الحالية، بل الود ودهم أن تذهب إلي الجحيم ثانوية الفقراء تلك!. فرجال المال ومسؤولو الحكومة يريدون سد كل المنافذ علي: الفقراء الذين يشكلون الرافد الأساسي لما يسمي البيروقراطية المصرية، أو موظفي المكاتب الذين يطبقون اللوائح والقوانين طبقاً لمبدأ تكافؤ الفرص، أو بعض أعضاء مجلسي الشعب والشوري الذين يثيرون الشغب أمام انقلابات رجال الأعمال والحكومة الحالية علي نظام الحكم البيروقراطي، أو طلاب الجامعات الذين يتظاهرون ضد سياسات الحكومة، أو الخريجين الذين يكشفون عجز الحكومة عن توفير فرص عمل لهم فيقدمون علي الهجرة من القرية الظالمة حتي ولو كان مصيرهم الموت. لقد قرر تحالف الحكومة ورجال الأعمال تجفيف منابع توريد الفقراء إلي جهاز الحكم والإدارة في مصر، وأهمها مورد التعليم. ومن المهم ألا ننسي أن التعليم والتفوق التعليمي ظل لمرحلة طويلة الأداة الأساسية التي نفذ منها كثير من الفقراء إلي أجهزة الدولة. ورغم التحولات التي حدثت للأجيال الحالية التي نفذت من الفقر إلي مستوي اجتماعي واقتصادي متميز فمازال راسخاً في ذاكرتها الدور الذي لعبه مبدأ تكافؤ الفرص في تحقيق أحلامها. لكن يبقي أنها ارتبطت في النهاية بشبكة مصالح مالية وسلطوية، لذلك فإن موقفها نفسه مشكوك فيه، وحتي لو صح فإنه وقوف في الوقت الضائع.