في بلاد العالم أجمع تتضمّن الموازنات العامة حساباً لا يخضع للمساءلة والمحاسبة، هو حساب المصاريف السرية، الذي يعهد به عموماً إلى ما يسمى جهاز استخبارات أو استطلاع أو معلومات أو أمن قومي أو ما شاكل من مرجعيات التجسّس والعمل السري. تعددت الأسماء والخطب واحد. وما يقال عن سائر بلاد العالم في هذا الصدد يصدق أيضاً على أقطارنا العربية. المبالغ المرصودة في هذا الحساب كثيراً ما تكون كبيرة ذات بال. وهي تنفق على أبواب قد لا تخضع للتدقيق أو التحقيق أو المساءلة أو المحاسبة. ذلك لأن الأبواب قد لا تكون مشروعة بمعايير الأخلاق والأعراف والقيم الاجتماعية أو الإنسانية أو الحضارية. بعبارة أخرى: قد لا تكون مشرّفة. مع ذلك فهي مباحة ومستساغة لا بل مُستحبّة، ولا اعتراض عليها من المسؤولين السياسيين ما داموا لا يعرفون بها ولا هُم مُطّلعون عليها. وعندما يحين أوان قطع حساب الموازنة، أي مراجعة تنفيذها من جانب مجلس النواب، فليس من يطلب كشف حساب تفصيليا يحدّد أين أُنفقت تلك المبالغ الطائلة وكيف ومن أجل تحقيق أي أغراض. فالمطالبة بكشف حساب بهذا المعنى قد تكون منطلقاً لكشف فضائح لا حدود لها، قد يُعرف أين تبدأ ولكن لا يُعرف أين تنتهي. ليس من بلد إلا وفيه جهاز استخباراتي يتصرّف بحساب سرّي ترصد فيه مبالغ طائلة. في الولاياتالمتحدة الأميركية عدد من تلك الأجهزة، أشهرها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفدرالي (الأف بي آي). ومثل هذا الجهاز ينشط أيضاً في بريطانيا وفرنسا وروسيا وسائر الدول الكبرى. هذه الأجهزة كثيراً ما تقوم بأعمال تصنع التاريخ في مختلف أرجاء العالم. والكل يعلم ما كان لتلك الأجهزة من أدوار في افتعال انقلابات عسكرية، وفي إثارة الفتن داخل بلدان أخرى، والإيقاع بين بلدان متجاورة بإحداث إشكالات بين دولها، وتصفية شخصيات وقوى معينة في بعض البلدان الأخرى، وتعميق أسباب الفرقة بين أطياف سياسية في مجتمعات معينة. لا بل كثيراً ما يكون لتلك الأجهزة أدوار في رسم السياسات الخارجية للدول الكبرى عبر المعلومات التي تضعها في تصرّف أصحاب القرار السياسي، والمعلومات كثيراً ما تكون مصطنعة أو حتى مختلقة أو مصاغة على وجه مرسوم خدمة لمآرب مبيتة. وكان آخر ما جرى على هذا المستوى المعطيات المختلقة التي حدت بالدولة العظمى، أميركا، إلى شنّ حرب على العراق كان لها ما لها من تداعيات خطيرة على مصير القطر العراقي وعلى مصير منطقة الشرق الأوسط وعلى دور الدولة العظمى في المنطقة وسائر أرجاء العالم لا بل وعلى مكانة الإدارة الأميركية سياسياً داخل الولاياتالمتحدة. فلقد شنّت الحرب الأميركية على العراق تحت ذريعتين، افتعلتهما أجهزة الاستخبارات الأميركية، وسرعان ما ثبُت بطلانهما بعد الاحتلال بشهادة المسؤولين الأميركيين أنفسهم. الذريعة الأولى هي مزعم أن دولة العراق كانت تمتلك القنبلة النووية، والذريعة الثانية أن الحكم العراقي كان على علاقة وثيقة مع تنظيم القاعدة الإرهابي. واضطرّت الإدارة الأميركية بعد انكشاف الحقيقة إلى أن تستدير في حملاتها الدعائية في العالم تبريراً لحربها على العراق بإعلان أن حملتها على القطر العربي المُعتدى عليه كانت من أجل نشر الحرية وإشاعة الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان فيه. فإذا بالحصيلة نشوب فتنة مدمرة ووقوع مأساة إنسانية فاجِعة وإهدار لمصير شعب واعِد بلا وازِع ولا رادِع. وإذا بقيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان شعارات جوفاء لا صدى لها على أرض الواقع في البلد المنكوب. هذا مثال على ما تسببت به أجهزة الدول الكبرى من فواجِع وكوارث وما ترتكبه من تجاوزات، والأجهزة نفسها في الدول الأصغر لا تتورّع عن ارتكاب التجاوزات لا بل اقتراف الجرائم في حالات كثيرة، في محاولات للتأثير في مسار الحياة العامة داخل الدولة أو في دول مجاورة تحقيقاً لأهداف معينة لا وصول إليها عبر الوسائل السياسية المعهودة. هذه الأجهزة تشكل بقعة سوداء على صفحة حضارة العصر، فهذه الحضارة تقوم على قيم اجتماعية وأخلاقية وإنسانية معروفة، كلها تغدو مستباحة في ممارسات هذه الأجهزة تحت ذريعة خدمة ما يسمى مصالح وطنية عليا على المستوى الدولي أو الإقليمي أو حتى المحلي. والأدهى أن القابضين على القرار السياسي في شتى الدول يُدركون هذا الواقع ولكنهم يتجاهلونه لا بل هُم لا يتوقفون عنده ولا يمانعون فيه ويمضون قدماً كل عام في تخصيص المبالغ الضخمة لذلك الحساب كيما تتمكن الأجهزة من مواصلة سياساتها وممارساتها وتجاوزاتها ولو من دون حساب. فلا غلو في القول إن الحساب السرّي يبقى وصمة عار على جبين الحضارة المعاصرة، وسرّ الشؤم في هذا الحساب يكمن من سرّيته وبالتالي عدم خضوعه، دون سائر حسابات الدولة، لأي وجه من أوجه المساءلة أو المحاسبة. وكثيراً ما تكون السفارات مركزاً يتلطّى فيه رجال الاستخبارات تحت الحماية الدبلوماسية. هكذا تمارس الأجهزة المشؤومة شراكتها لمراجع السياسة الخارجية في كثير من الدول. لا بل هكذا دخلت وظيفة الاستخبارات طور العولمة المنظمة. وقد شهدنا في لبنان انموذجاً من هذا الواقع، إذ ألفينا فريقاً من (الأف بي آي) الأميركية ينزل بعد ساعات قليلة من وقوع جريمة اغتيال إلى الشارع لمساعدة السلطة اللبنانية، على ما قيل، في التحقيق في الجريمة. وما هذا إلا أنموذج عن ظاهرة عامّة تصحّ على كثير من بلدان العالم. أما واقع أن الحساب لا يخضع للحساب أو المحاسبة فما هو إلا انعكاس لواقع آخر، هو أن العاملين في الأجهزة لا يخضعون للمحاسبة السياسية. وهذا يشكل فجوة في أي نظام ديموقراطي، إذ أن الديموقراطية تتلازم حُكماً وقاعدة المساءلة والمحاسب العالم سيكون أفضل كثيراً من دون حسابات أو صناديق سرية إنها من مصادر الفساد.