إن زيارة الصين تأتي لمواصلة وتطوير الحوار الاستراتيجي الذي جرى خلال السنوات الأخيرة بين بلدينا، لقد حققنا تقدما جديا على هذا الطريق وتغدو العلاقات الروسية الصينية اليوم عاملا محوريا للتطور الدولي”. هكذا صرح ديمتري ميدفيديف غداة أول زياراته كرئيس لروسيا إلى الخارج وفي بكين القطب الدولي القادم وهي زيارة “لن تساعد على تطوير الشراكة الاستراتيجية بين البلدين فحسب بل وستفتح صفحة جديدة من تاريخ علاقاتهما على حد تعبير “جيا تيسنغ لين” رئيس المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني. الشاهد أن هذه الزيارة تطرح تساؤلات مهمة للغاية منها كيف استطاع البلدان تجاوز مراحل خلافاتهما الأيديولوجية؟ وما الذي تمثله هذه الزيارة واستحقاقاتها بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية؟. بدأت العلاقات الثنائية بين البلدين في العام 1949 إبان وجود الاتحاد السوفييتي في المنظومة العالمية ثم شهدت هذه العلاقة توترا كبيرا في المراحل اللاحقة أدت إلى انفصام بينهما، غير أن الوضع ما لبث أن تغير خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وظهور روسيا الاتحادية، ففي عهد بوريس يلتسين بدأت العلاقات الروسية الصينية تشهد انفراجة واسعة وتقوية ملحوظة سيما في موقف البلدين من رفض هيمنة قوة واحدة متمثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية في السيطرة على مقدرات النظام العالمي الجديد. وفي يوليو من العالم 2001 وقعت موسكووبكين اتفاق تعاون يمتد لعقدين من الزمان كبديل عن الاتفاقية التي كانت قد أحيلت للتقادم والموقعة في أيام “ماو تسي تونج” و”ستالين”، أما التجلي الأقوى للعلاقات الثنائية فكان باديا للعيان من خلال البيان الصيني الروسي المشترك لإنشاء نظام عالمي جديد والذي كان الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين محركه وفيه تبلورت الرؤية المشتركة حول قضايا دولية رئيسية مثل إصلاحات الأممالمتحدة والعولمة والتعاون بين الشمال والجنوب والاقتصاد والتجارة الحرة العالمية. والمؤكد أن الأمر لم يتوقف عند حدود وآفاق التعاون الدبلوماسي والسياسي بل لامس الحدود العسكرية، وذلك ما اتضح جليا في المناورات العسكرية المشتركة بين الصين وروسيا في الفترة من 18 إلى 25 أغسطس من عام 2005 والتي أثارت مخاوف أوروبا وأمريكا. ومع زيارة ميدفيديف الأخيرة كان ظاهرا أنه يمضي قدما على نهج معلمه فلاديمير بوتين وفي مقدمته تقوية التحالفات الآسيوية لبناء وإن لم يعلن ذلك جبهة قادرة على التصدي والتحدي للأطماع الأمريكية التي لم تعد تواري أو تداري أهدافها كما في أزمة الدرع الصاروخية التي تريد واشنطن نشرها على حدود روسيا. والمتابع الجيد لزيارة ميدفيديف للصين يمكنه أن يرصد شكلا من أشكال التعاون الذي يحمل في الثنايا خسائر واضحة لواشنطن، فالقراءة الأولى للبيان الصادر في 23 مايو المنصرم عن القمة تدعو إلى الاسترشاد باعتبارات الأمن العالمية وتجنب استخدام القوة العسكرية، والوقوف بحذر تجاه مسألة فرض عقوبات على دولة ما إلى آخر البيان والذي هو مانيفستو لواقع جديد تشارك فيه قوى آسيا الشرقية في عملية صنع القرار الدولي اختصاما من واشنطن. ومما لا شك فيه أن البيان يعد في واقع الأمر فجرا جديدا لتشكل محوراً آسيوياً يتجاوز في خطوط طوله وعرضه منظمة شنغهاي إلى حلف يملك القوة والنفوذ يمتد من موسكولبكين ويغازل الهند في محاولة لجذبها بعيدا عن التحالفات الأمريكية “الإسرائيلية”. غير أن أمر التعاون الثنائي في مواجهة التحالفات الأمريكية “الإسرائيلية” للعالم برا وجوا كان شديد الوضوح في اللقاء الأخير، والذي أعلن في نهايته رسميا رفض البلدان استخدام الفضاء للأغراض العسكرية، كما شددا على أهمية الإسراع في إعداد وثيقة قانونية دولية لمنع نشر الأسلحة في الفضاء في إطار مؤتمر جنيف لنزع الأسلحة. أضف إلى ذلك أن أحاديث التعاون العسكري بين البلدين كانت حاضرة وبقوة، فكلاهما يرفض الدرع الصاروخية، ولهذا فإن التقارب العسكري الروسي الصيني يرجح وبعد القمة الأخيرة أن يشهد تسارعا كبيرا، فالصين ذات الفوائض المالية الهائلة تسعى اليوم إلى روسيا صاحبة التكنولوجيا العسكرية في البر والبحر والجو، ففي الأعوام الثلاثة المنصرمة حصلت الصين على أسلحة من روسيا تقدر بخمسة مليارات دولار، شملت معدات وصواريخ وغواصات ديزل، ومقاتلات سوخوي 27 و30 وفي هذا السياق كان الجنرال “فلاديمير ميخائيلوف” قائد القوات الجوية الروسية يصرح بأن روسيا تنوي تزويد الصين بطائرات استراتيجية قاذفة للقنابل من طرازي SU-27 M، SU -29 M وقاذفات بعيدة المدى من طراز TU-22M-3.. ماذا يعني ما تقدم؟ في ضوء رفض دول منظمة شنغهاي للطلب الأمريكي بحضور مناوراتها العسكرية عام 2005 بصفة مراقب يمكن القول إن واشنطن أمام تحالف عسكري يهدد كثيرا من حضورها ونفوذها التاريخي والجيوسياسي في آسيا، وهو حضور يتوافر له أمران غاية في الأهمية: المال والوفرة منه عند الصينيين، والعقول والخبرة العسكرية وتكنولوجيا السلاح المتطور وهذه عند الروس، ولهذا تجد واشنطن نفسها أمام خسائر استراتيجية طويلة المدى منها: نشوء حالة من المعارضة الدولية ذات المنعة والقوة لخطط توسعها العسكري والتي يمكنها أن تضر بتوازنات الأمن حول العالم. تشكيل مفهوم عالمي يرفض نزعات أمريكا الإمبريالية التي تتخفى في أردية التدخل الإنساني. الدعم الروسي للصين الواحدة بمعنى رفض تدخل أمريكا في قضية تايوان تحديدا وتخصيصا. تطوير موقف واضح وحاسم تجاه الدرع الصاروخية الأمريكية. توقع تعاون ثنائي في مجال الطاقة بما فيها الطاقة الذرية وفي ميادين العلم وتقنية غزو الفضاء والاتصالات والتكنولوجيا المعلوماتية وهذه كلها لا تصب في مصلحة واشنطن. وتظل تلميحات ميدفيديف إلى إمكان تحويل الغاز من أوروبا إلى الصين أمرا يضعف من قوى الترابط بين جانبي الأطلسي، وكأني بروسيا تضع الاتحاد الأوروبي ودوله أمام خيارات صعبة، فإما المضي قدما مع واشنطن وخططها التوسعية ومن ثم حرمانها من الغاز الروسي، وإما تقليل وإضعاف الرابط الأوروبي الأمريكي برفض توجهات واشنطن العدائية من أجل تأمين وصول الغاز الروسي للأراضي الأوروبية. كما يبقى خطب جلل آخر وهو أن ارتباط الدب بالتنين يحرم النسر الأمريكي من تطلعاته التي يضع عينيه عليها والمتمثلة في نفط بحر قزوين الحاوي على أكثر من 200 مليار برميل خام وتنتج حقوله 80 مليار متر مكعب غاز سنويا، ومعروف أن كافة خطط القرن الأمريكي الجديد واستراتيجيات وأوراق المحافظين الجدد إنما كانت تبغي الوصول إلى النفط الكامن تحت مياه بحر قزوين. وبقطع الطريق على النسر ستعلن مرحلة جديدة من انهيار الإمبراطورية الأمريكية التي تتراوح أوضاعها ما بين الركود الاقتصادي وإفلاس البنتاجون، وبين هذه وتلك، النظر إليها كمدينة منفية من التاريخ بعد أن امتلأت النفوس تجاهها بالكراهية وفقدت دورها كمدينة فوق جبل تنير بالحق والعدالة والحرية والمساواة. هل بدأ التحالف الصيني الروسي العمل ضد أمريكا رسميا؟ يبدو أن ذلك كذلك وبخاصة بعد أن سقطت فكرة “الأمة الضرورة” ذات الرسالة الكونية الحاملة للقيم الأدبية والمعايير الأخلاقية، وباتت أطماعها الإمبريالية كاشفة لأهدافها الحقيقية.