يقال دوماً إن الإعلام سلاح ذو حدين وأنا أفضّل أن أقول إنه ذو ثلاثة حدود، الحد الثالث في كف الممسك بهذا السلاح! أقول هذا ونحن نتابع بقلق واستياء ما يجري في لبنان الآن من نُذُر حرب أهلية تستعيد الوجه البغيض للحرب الأهلية الأولى. والحروب الأهلية مشكلتها الأولى دوماً أنها حروب بين طرفين لصالح طرف ثالث. وفي لبنان بالذات تتحقق هذه المعادلة وفقاً للمقولة الشهيرة بأن «لبنان ليس فيه غالب ومغلوب». رغم هذه الفذلكات التمهيدية فإن ما يجري في لبنان الآن من صراع هو بين طرفين رئيسيين هما: الموالاة والمعارضة. وأياً كانت ميولك الحزبية أو الطائفية أو الأيديولوجية فإنك لا بد أن تتحيّز إلى أحد الطرفين، لكن التحيز في الحروب الأهلية يختلف عن التحيز في الحروب القومية أو الأممية، إذ في الحروب الأهلية يكون التحيز مع أحد أطراف (العائلة) ضد طرف آخر من العائلة نفسها، ولك أن تتخيّل نفسك عندما ترمي بثقلك، كامل ثقلك، مع أخ ضد أخيه، وتقذع في شتيمة وتعنيف وازدراء الأخ الآخر، ثم تفاجأ بعد حين وقد تصالح الأخوان، وبقيت أنت طرفاً ثالثاً... لا وسيطاً يذوب عند المصالحة. ينساق هذا الخطاب التحذيري بالدرجة الأولى في منطقتنا العربية إلى وسائل الإعلام. وبالذات تلك التي تنساق بوجدانيتها البراغماتية حدّاً يفيض «تطوعاً» عما هو مرغوب منها، فتصبح قيصرية أكثر من القيصر نفسه! وكم شهد العالم العربي من معارك بينية، استخدم فيها الإعلام «خرقة» لتلويث زجاج النوافذ الفاصلة بين المتخاصمين، ثم بعد حين «خرقة» لتنظيف وتلميع النوافذ نفسها! يسوقنا إلى هذا الهاجس الآن أن عدداً من وسائل الإعلام العربية يوشك أن يبني نفسه طرفاً ثالثاً في حرب لبنان، عبر تحيزه المفرط مع أحد الطرفين، واستخدام لغة القطيعة وقطع الحبال والمفاصلة التامة مع الطرف الآخر. أكرر وأعيد أن لا أحد يطالب وسائل الإعلام تلك بالحياد، أولاً لأن الحياد المطلق خرافة، وثانياً لأننا كلنا متحيزون لطرف ضد آخر. وقد أبنت موقفي مما يحدث في لبنان عبر مقالتي السابقة هنا: «الجهاد في سبيل حزب الله!» («الحياة» 14/5/2008). لكننا يجب أن نستحضر هنا الفرق بين تحيّز كاتب مفرد وتحيز وسيلة إعلامية برمتها. لا نرجو من وسائل إعلامنا أن تكون ماءً يطفئ حرائق السياسة، فما خُلق الإعلام ليكون ماءً وإلا أصبح إعلاماً بلا لون ولا طعم ولا رائحة! لكننا نرجو من وسائل إعلامنا أن لا تكون حطباً يزيد حرائق السياسة العربية اشتعالاً. وفي ما بين الماء (الإعلام الباهت) والحطب (الإعلام اللاهب) تكمن عناصر وصيغ تكوينية عديدة ينشأ من فيضها الإعلام الذي يبني عند الرضا لكنه لا يهدم عند الغضب... إنه الإعلام الحكيم. إذ ليس من حق أحد أن يمنعك من قول «الحقيقة»، لكن من حق أي أحد أن يعترض على طريقتك في قول «الحقيقة». وهنا، سأتحول من الخطاب القومي إلى الخطاب الوطني عبر سياق لا ينبتّ عن السياق الآنف بل يسير إزاءه. فقد تميزت المملكة العربية السعودية في مواقفها السياسية طوال عقود مضت بالحكمة والتوازن وطول النَفَس، والاتيكيت الديبلوماسي الرصين دوماً حتى في أحلك القضايا. هل يمكن أن ننسى موقف الملك عبدالله بن عبدالعزيز من الليبيين الذين حاولوا اغتياله، وهل بعد محاولة اغتيال من طول بال؟! الملك عبدالله يحمل الآن لواء الدعوة الى التسامح والحوار بين الأديان والحضارات، فكيف يمكن أن يتخلى عن مبدأ الحوار بين فصائل وطوائف متناحرة، وهو الذي تبنى لقاءات مكة التصالحية بين أطراف صراع أكثر من منطقة عربية وإسلامية؟ ومن قبل ذلك بزمن كانت المملكة ربّان اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية اللبنانية الأولى، فهل من الحكمة أن نتحول الآن من «الأخ الأكبر» إلى طرف ثالث مع أحد الأخوين الصغيرين؟! ونهدم بالإعلام ما قامت به الديبلوماسية السعودية الرصينة طوال الأشهر الماضية عبر وزير خارجيتها الأمير الخبير سعود الفيصل وسفيرها الفاعل عبدالعزيز خوجة من الحفاظ على مسافة واحدة مع جميع الفرقاء اللبنانيين؟ لم تكن المملكة العربية السعودية يوماً منذ عهد الملك عبدالعزيز طرفاً في صراع. كانت دوماً أكبر من مجرد طرف كما يُراد لها الآن. لم تكن المملكة أبداً طرفاً متحيزاً كل التحيز إلا في صراع واحد فقط، هو الصراع العربي - الإسرائيلي، واستمرت في تحيزها النبيل مع كامل الحقوق الفلسطينية حتى الآن، يوم تخلى آخرون عن تحيزهم... بل وحيادهم أحياناً. لا يغيب عن ذهني وأنا أقول هذا الكلام، خطر النفوذ الإيراني والتغلغل الطائفي في المنطقة، وأدعو إلى الاستمرار في لجم هذا النفوذ وكشف التغلغل، ولكن من دون أن نطمس بأحبار الإعلام المنسكبة خط الرجعة للالتقاء حول القواسم الحتمية. نحن بحاجة إلى إعلام يتحدث بلغة تعي وتتذكر دوماً قانون السياسة الخالد بأنه لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة، لا ينبغي أن ننسفها بلغة قطعية تصب زيت الإعلام على نار الخلافات العربية.