شكلت ظاهرة ارتفاع الأسعار في الآونة الأخيرة قلقا متصاعدا في أوساط مختلف فئات المجتمع البحريني وغيره من المجتمعات الخليجية أيضا التي شهدت بلدانها ارتفاعا جنونيا في مختلف أسعار السلع الغذائية مما انعكس سلبا على المقدرة الشرائية لشريحة واسعة من المواطنين خاصة من ذوي الدخل المحدود. اقتصاديا لا يمكن تجاهل التأثيرات الخارجية في هذا الارتفاع حيث يؤكد جميع خبراء الاقتصاد أن ارتفاع السلع في بلد المنشأ أدى إلى ارتفاعها بشكل تلقائي في الدول المستوردة ومنها دول مجلس التعاون الذي تشكل البحرين أحد أعضائه. فالبحرين وغيرها من دول مجلس التعاون تعتبر من الدول المستوردة لجميع سلعها الغذائية والاستهلاكية تقريبا وبالتالي فإنه من المؤكد تضررها من ارتفاع هذه السلع في دول المنشأ وهذا يستدعي النظر في هذه الوضعية من خلال اتباع سياسة اقتصادية تقلل من هذا الاعتماد وبالتالي تخفف من وطأة التأثيرات المؤكدة لدورة ارتفاع الأسعار العالمية في مختلف الفترات.مؤخرا استضافت البحرين تجمعا اقتصاديا «منتدى ظاهرة ارتفاع الأسعار بدول مجلس التعاون الخليجي- الأسباب والتوجهات المستقبلية« شارك فيه خبراء واقتصاديون من البحرين ومن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وسيطرت على محاوره ظاهرة ارتفاع الأسعار حيث عالجها المشاركون من وجهات نظر مختلفة فيما حذر البعض من التداعيات المستقبلية لهذا الارتفاع على المجتمعات الخليجية بشكل عام. أسباب خارجية عن أسباب ظاهرة ارتفاع الأسعار يوضح الباحث الاقتصادي الدكتور حسين المهدي أن هناك أسبابا لارتفاع الأسعار محلية وخارجية منها ارتفاع أسعار صرف العملات، مثل اليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني وغيرها من العملات زيادة ملحوظة مقابل الدولار الأمريكي، وبالتالي مقابل الدينار البحريني. علماً بأن مملكة البحرين تستورد القسم الأكبر من حاجاتها من السلع من مختلف دول العالم التي ارتفعت أسعار عملاتها إلى حد كبير مقابل الدينار البحريني. وأضاف ان أسعار السلع المستوردة التي تعتمد عليها مملكة البحرين بصورة كبيرة لتلبية الطلب المحلي سجلت ارتفاعا ملحوظا، وزيادة غير مسبوقة، وقد انعكست هذه الزيادة على تصاعد وتيرة أسعار هذه السلع بشكل مستمر في السنوات الأخيرة تحت تأثير ارتفاع أسعار المواد الأولية بما فيها النفط والغاز مما رفع كلفة السلع ذات الارتباط المباشر او غير المباشر بتلك المواد الأولية. ونوه المهدي بأن هناك أسبابا خارجية أخرى هي التقيد بمقررات المنظمات الدولية التي تعتبر البحرين عضواً فيها فعلى سبيل المثال تتيح قرارات منظمة التجارة العالمية التي اعتبرت مملكة البحرين من أوائل الدول المنضمة إليها عام 1994م، تحرك رؤوس الأموال والموارد البشرية وأصحاب رؤوس الأموال وغيرها من عناصر الإنتاج بحرية تامة، كما هو الحال بمنظمة العمل الدولية بمقرراتها المتعلقة بالعمل اللائق والحوار الاجتماعي بين عناصر الإنتاج وانتشار الأوبئة والأمراض لبعض المنتجات الحيوانية والطيور والكوارث الطبيعية التي دمرت المحاصيل الزراعية والحبوب. ومحلية أيضا أما عن الأسباب المحلية فيوضح الدكتور حسين المهدي أن ارتفاع الأسعار وزيادة السيولة المحلية يقودان إلى تحقيق المقولة الاقتصادية المتداولة وهي نقود كثيرة تطارد سلعا وخدمات قليلة. ويقول الدكتور المهدي إن وجود رقابة مباشرة وغير مباشرة على الأسعار في مملكة البحرين، حيث توجد رقابة على أسعار المواد الغذائية والتموينية من قبل وزارة الصناعة والتجارة، على سبيل المثال، إضافة إلى تحديد أسعار الأدوية والمواد الصيدلانية من قبل وزارة الصحة، أدى بلا شك إلى تضييق مجال تحرك التجار من حيث قدرتهم على التحكم في الأسعار بشكل عام وبالتالي شكلت ضغطاً على مستويات الأرباح مما ينفي صفة السيطرة من قبل التجار على الأسعار. ويضيف أن ما ضاعف من العنصر الرقابي على الأسعار أيضا وجود بيئة من المنافسة المفتوحة حدد أبعاده انضمام مملكة البحرين إلى منظمة التجارة العالمية والى منظمة العمل الدولية كما سبق ذكره وغيرهما من المنظمات الدولية. ويقترح الدكتور حسين المهدي لمواجهة ظاهرة ارتفاع الأسعار اتخاذ العديد من الإجراءات العملية ذات الطابع الاقتصادي والمالي مثل توفير دعم بما نسبته 30% للأسر المستحقة للسلع على شكل «كوبونات دعم المواد الغذائية« او ما يسمى (فود ستمز) (فس لُئ) المعمول به في بعض دول العالم كالولايات المتحدةالأمريكية وكذلك الحاجة إلى وضع سياسة بخصوص عمل مخزون استراتيجي من السلع الضرورية. مشاكل مستقبلية من جانبه يرى الدكتور هاشم سعيد النعيمي من وزارة الاقتصاد بدولة الإمارات العربية المتحدة أن هناك العديد من المشاكل المستقبلية المتوقعة في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات مثل انتشار ظواهر سلبية في المجتمع كالبحث عن الكسب غير المشروع وعدم مقدرة الأسر على الوفاء بالمتطلبات الأساسية للأبناء وزيادة نسبة الأمراض النفسية والتوترات العصبية وحالات الاكتئاب والإحباط التي ستؤثر في الإنتاجية وتؤدي إلى التقصير في العمل والمشاركة في عملية التنمية. كما يؤدي ارتفاع السلع والخدمات إلى انخفاض المستوى الاقتصادي والثقافي والعلمي للأفراد بسبب الاستغناء عن بعض الضروريات وظهور ضغوط مادية ونفسية واقتصادية على الأفراد والأسر وزيادة ساعات العمل لتوفير الحاجات الضرورية مما يؤدي إلى المشاكل الأسرية وضعف الإنتاجية. إضافة إلى ذلك يقول إن هذا الارتفاع من شأنه أن يؤدي أيضا إلى العزوف عن الزواج وتكوين الأسر الجديدة بسبب عدم القدرة على تحمل المصاريف والكُلَف، مما يزيد من العنوسة والانحرافات الأخلاقية ومشاكل أخرى لا حد لها إلى جانب ارتفاع نسبة الطلاق بسبب عدم الاستقرار المادي للأسر مما سيؤدي إلى حدوث مشاكل أسرية وعدم تمكن أرباب الأسر من تغطية الاحتياجات في ظل الارتفاع المتواصل للأسعار. مواجهة الارتفاع وأضاف أن دولة الإمارات العربية المتحدة اتخذت عدة خطوات لمواجهة ظاهرة ارتفاع الأسعار مثل التنسيق المستمر بين الجهات المعنية للتصدي بشكل فعال لمعالجة أوضاع السوق في الدولة وذلك من خلال وضع سياسات وإجراءات وتشريعات تساهم في معالجة تلك الظواهر ونشر ثقافة الادخار «الوعي الاستهلاكي« لدى أفراد المجتمع من خلال برامج التوعية والإرشاد الاستهلاكي سواء للأفراد أو للمجتمع. وقال إنه من المهم وضع تشريعات قانونية مناسبة لمراقبة الأسواق وتوازنها مما يجعل النسبة المئوية لشراء المواد الاستهلاكية ثابتة بالنسبة إلى الرواتب وتشجيع الصناعات المحلية، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في العملية الإنتاجية والعمل على تحديد أسعار المنتجات الاستهلاكية المهمة التي تتعلق مباشرة بالأغذية في المحال، وتشديد الرقابة عليها لحماية المستهلك من الغش التجاري وكذلك العمل على مراجعة زيادة الأسعار العشوائية، من خلال الدراسة الدقيقة للأسعار لتحقيق التوازن المناسب بين مصلحتي التاجر والمستهلك. وعن الإجراءات الفعلية التي قامت بها وزارة الاقتصاد في دولة الإمارات العربية المتحدة للحد من الارتفاعات غير المبررة في الأسعار، يقول الدكتور النعيمي إن الوزارة قامت بتشكيل لجان لمراقبة الأسعار على مستوى كل إمارة وإصدار قرار وزاري لتنظيم إجراءات ضبط ما يقع من مخالفات لقانون حماية المستهلك. وأضاف أن الوزارة لجأت لإصدار النشرة الأسبوعية للأسعار تشمل 300 سلعة أساسية في الصحف المحلية باللغتين العربية والإنجليزية وإعداد دراسات حول أسعار السلع الأساسية وعرضها على اللجنة العليا لاتخاذ القرار المناسب وإعداد دليل لأسعار الخدمات الرئيسية في دولة الإمارات العربية المتحدة. وأشار إلى أن الوزارة قامت أيضا بالعمل على تفعيل دور الجمعيات التعاونية من أجل تكوين سوق موازية لمنافذ البيع للحد من ارتفاع الأسعار بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية وتنظيم جولات ميدانية للمسئولين في الوزارة وبصورة مستمرة بالتنسيق مع السلطات المحلية بالإمارات لمراقبة الأسواق والأسعار والعمل على الحد من الارتفاعات غير المبررة ومنع الاحتكار والاستغلال. كما قامت الوزارة - يضيف الدكتور النعيمي - بإعداد دراسة عملية شخصت بها الأسباب والمبررات التي عملت على ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الدولة ووضعت المقترحات والآليات التي تسهم في الحد من الارتفاعات غير المبررة في الأسعار وتوعية المستهلك من خلال نشر قوائم الأسعار لمنافذ البيع في دولة الإمارات العربية المتحدة إضافة إلى توعيته بأهمية تغيير بعض الأنماط الاستهلاكية بهدف ترشيد الاستهلاك وفرض غرامات على المزودين أثناء استغلال المواسم في رفع الأسعار غير المبررة والاحتكار والاستغلال. كما لجأت الوزارة إلى توقيع مذكرات تفاهم مع الجهات المحلية والاتحادية بهدف التعاون والتنسيق لرقابة الأسواق وتوعية المستهلكين وكسر الاحتكار من خلال قانون إلغاء الوكالات التجارية على المواد الغذائية الرئيسية وفتح الباب أمام المزودين للاستيراد المباشر واتخذت اللجنة العليا للمستهلك العديد من القرارات بناءً على دراسات اقتصادية تحليلية للحد من الارتفاعات غير المبررة في الأسعار للسلع الأساسية. مواجهة التضخم أما نائب الأمين العام المساعد للشئون الاقتصادية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الدكتور ناصر القعود فتحدث عن الجذور الهيكلية للتضخم في دول مجلس التعاون فقال إن ذلك يعود إلى اختلال قوى السوق على مستوى الاقتصاد من خلال تزايد الطلب على السلع والخدمات ودور القطاع الحكومي من خلال ازدياد الإنفاق وتوسيع دائرة النشاط الاقتصادي وزيادة مساهمة القطاع الخاص إلى جانب النمو السكاني وزيادة الطلب على السلع والخدمات. وأضاف إلى ذلك قضية قصور الطاقة الاستيعابية للاقتصاد من خلال التباين بين الموارد المالية وقدرة القطاعات الاقتصادية على استيعاب هذه الموارد واختناق السيولة في قطاعات من دون أخرى يساهم في ارتفاع الطلب على تلك القطاعات وضعف النوع في القنوات الاستثمارية المتاحة. ويضيف الدكتور القعود ان هناك قصورا تنظيميا كالفجوة المؤسساتية والبيروقراطية حيث نجد تقادم أو غياب بعض التشريعات والتنظيمات التي قد تمثل عبئا إضافيا على هيكل التكاليف النهائية لإنتاج السلع والخدمات، إلى جانب البيروقراطية وبطء أداء الأجهزة الحكومية قد يساهمان في زيادة كُلَف تقديم السلع والخدمات إلى المستهلك. إلى جانب ذلك يرى الدكتور القعود أن هناك قصورا رقابيا لضمان عدالة تسعير السلع والخدمات حيث نشاهد قصور الهيكل الرقابي في متابعة عدالة التسعير الذي قد يكون سببا في بدء شرارة التضخم مما يعمق من إشكالية السيطرة على التضخم مستقبلا. وقال إن دول مجلس التعاون الخليجي تشترك في وجود الضغوط التضخمية منذ عام 2003م ولكن هناك تفاوتا في حجم هذه الضغوط التضخمية فنجدها عالية في دولة قطر والإمارات العربية المتحدة وأقل ارتفاعا في مملكة البحرين. واعتبر الدكتور القعود أن أجهزة الرصد الإحصائي لمؤشرات التضخم هي خط الدفاع الأول أمام التضخم إذ من المهم أن تكون هناك قدرة على الرصد الدقيق للتضخم وبشكل مستمر والتنبؤ بالضغوط التضخمية والتحديث المستمر لسلال السلع الاستهلاكية بما يتوافق والتغير المستمر في العادات الاستهلاكية ورصد مسببات وجذور التضخم بما يساعد على تحديد الحلول بدقة أكثر. وأضاف أن طرائق معالجة التضخم تختلف باختلاف السبب، فسياسات التعامل مع التضخم الناشئ عن ارتفاع كلفة الواردات تختلف عن سياسات التعامل مع التضخم الناجم عن المتغيرات المحلية كارتفاع الإنفاق الحكومي أو ظهور حالات الغش التجاري. وفي مداخلة لها قالت عضو المجلس الأعلى للمرأة (سيدة أعمال) السيدة أفنان الزياني ان الأسباب الحقيقية لارتفاع أسعار مختلف السلع في البحرين تعود إلى ارتفاع أسعار العقارات وكذلك ارتفاع أسعار مواد البناء وتوجه رؤوس الأموال لشراء تلك العقارات والبناء. وأضافت أن رؤوس أموال خليجية كبيرة تستثمر في الخارج في حين يفترض أن تستثمر هذه الأموال في الدول الخليجية من خلال إنشاء شركات توظف العمالة الوطنية بدلا من العمالة الأجنبية التي تخرج مليارات الدولارات إلى خارج دول المجلس، أي إلى أوطانها. ويرى الممثل المقيم لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي بدولة الإمارات العربية المتحدة الأستاذ خالد علوش أن هناك شعورا عالميا بضعف الدولار وهناك مؤشرا عالميا للهروب من الاحتفاظ بالدولار وهناك توجها لتنويع القاعدة الاقتصادية وقد خطت دول خطوات مهمة في هذه الاتجاه من خلال الاستثمار في القطاعين الصناعي والزراعي. وقال ان البترول على سبيل المثال يشكل المصدر الأساسي لاقتصادات دول الخليج وهي تعتمد عليه اعتمادا كبيرا في استثماراتها الصناعية ولكن يجب عدم الاعتماد الأساسي على النفط وإنما طرح بدائل أخرى حتى لا يؤدي نضوبه إلى آثار سلبية كثيرة في اقتصاد هذه الدول. أما عضو غرفة تجارة وصناعة البحرين إبراهيم زينل فيقول ان من أسباب ارتفاع الأسعار في البحرين هو انخفاض الدولار مقابل العملات الأخرى مثل اليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني حيث البحرين تستورد أغلب المواد الاستهلاكية من الدول التي ارتفعت عملاتها مقابل الدولار حيث الدينار مرتبط بالعملة الأمريكية، وبالتالي فإن عملة تلك الدول ارتفعت مقابل الدينار. وقال إن الدول الخليجية مطالبة بالبحث عن مصادر دخل أخرى غير سلعة النفط مثل الاستثمار في الشركات الصناعية والغذائية لتعزيز قوتها الاقتصادية وكذلك الاهتمام بقطاع المقاولات لتنفيذ مشاريع استثمارية ضخمة خاصة أن هناك إشكالية في أسعار مواد البناء انعكست على المقاولين أنفسهم.