على ما يبدو أن روسيا سوف تصبح بعد عامين وحدها في الفضاء لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن مضى، وعلى ما يبدو أيضا أن هذه الصناعة العلمية ذات النفقات العالية لم تعد تجذب الدول الصناعية الكبرى التي اعتادت على الصناعات ذات الأرباح العالية والسريعة، فقد كانت رحلة مكوك الفضاء الأميركي «انديفور» إلى المحطة الفضائية الدولية مؤخرا إحدى الرحلات الأخيرة لجميع مكوكات الفضاء الأميركية الثلاثة «انديفور» و«اتلانتيس» و«ديسكفري» التي سينتهي عملها عام 2010 ،حيث حان لها أن تنسحب من الخدمة لتحل محلها مكوكات الفضاء «اوريون». ولأن أول مكوكات الفضاء «اوريون» لن يدخل الخدمة إلا في عام 2015 فإن الولاياتالمتحدة ستضطر إلى الاستعانة بالسفن الفضائية الروسية، أي أن الولاياتالمتحدة ستكون تابعة لروسيا طيلة خمسة أعوام على حد قول مايكل جريفين مدير وكالة الفضاء الأميركية «ناسا». ولن يكون بمقدور الولاياتالمتحدة لأول مرة خلال خمسين عاما إرسال الإنسان إلى الفضاء من خلال الاعتماد على الذات، ولا يستطيع أحد أن يؤكد ما إذا كانت سفن الفضاء الأميركية ستعود للانطلاق في الفضاء بعد عام 2015 أم لا. حيث هناك من يشكك في ذلك في الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها بعد أن باتت نفقات صناعة الفضاء تشكل عبئا كبيرا لا تتحمله الميزانية الأميركية، بينما تنفق على الحروب والآلة العسكرية عشرات وربما مئات أضعاف ما ينفق على صناعة الفضاء، هذا على الرغم من وجود أصوات في الولاياتالمتحدة تحذر من خطورة الأمر وترى فيه تهديدا كبيرا. حيث يقول السيناتور الأميركي بيل نيلسون، رئيس اللجنة التي تشرف على وكالة الفضاء الأميركية «إن هذا يعد بمثابة الخيانة الكبرى»، وأوضح السيناتور الأميركي أن احتكار روسيا للرحلات الفضائية يشكل خطرا جسيما على «الأمن القومي» للولايات المتحدة، كما يشكل فضيحة كبرى لعلوم الفضاء الأميركية. وترجع حجة المؤيدين لعدم الإنفاق على علوم الفضاء في واشنطن إلى أن صناعة الفضاء الأميركية منيت بخسائر فادحة على مدى أكثر من أربعة عقود مضت منذ حادثة انفجار المركبة أبوللو في يناير 1967، ومن بعدها انفجار المركبة تشالنجر في يناير 1986، ثم حادث انفجار المكوك الفضائي الأميركي كولومبيا في فبراير 2003 ومصرع رواده السبعة مما ترك بالغ الأثر السلبي على برنامج الفضاء الأميركي بشكل عام ونشاط وكالة ناسا الأميركية بشكل خاص، وكان للرحلة الأخيرة لمكوك الفضاء «انديفور» في مارس المنصرم أثرها السلبي أيضا رغم نجاح الرحلة، فقد واجه هذا المكوك صعوبات بالغة سواء في إقلاعه الذي تأخر شهرا كاملا بسبب أعطال فنية، بينما واجهت رحلة عودته للارض صعوبات كادت أن تؤدي لكارثة أخرى وتودي بحياة الرواد السبعة الموجودين عليه. حيث تأجل هبوط المكوك للأرض مرتين بسبب الأعطال ولم يكن ممكنا تأجيله مرة أخرى وهو يحلق في الفضاء وذلك لعدم كفاية الوقود، مما يعني إما الهبوط وإما الكارثة، وتمت عملية الهبوط التي استغرقت أكثر من ساعة ارتفعت فيها درجة حرارة المحرك إلى 1500 درجة حتى اقترب من الانفجار، ولكن تم الهبوط بسلام. تشارك روسيا وأميركا بالدور الرئيسي ضمن أربع عشرة دولة في برنامج المحطة الفضائية المدارية الدائمة في الفضاء، وقد واجهت وكالة ناسا الأميركية مشاكل وأزمات حادة. حيث تقلص الدعم المادي الفيدرالي لبرنامج الفضاء الأميركي، وتوقف برنامج سبيس شاتل للرحلات الفضائية، وظهر توجه في الرأي العام الأميركي يطالب بالعدول تماما عن الرحلات المأهولة في الفضاء بشكل عام وعن مشاريع رحلات القمر والمريخ بشكل خاص، وكتبت صحيفة واشنطن بوست تقول إن هناك شكوك حول جدوى المشاركة في المحطة الفضائية الدولية المدارية التي يتولى الروس فيها الدور الرئيسي، وهناك شكوك أيضا حول استمرار مشاريع الإعداد لرحلات مأهولة للقمر أو المريخ، وقالت الصحيفة إن دوائر رجال الأعمال والصناعة يطالبون وكالة ناسا بأن تركز موارد ميزانيتها على الأنشطة الفضائية العلمية والتجارية. وأضافت الصحيفة تقول «إن العجز في ميزانية وكالة ناسا وصل إلى تسعة مليارات من الدولارات والبيت إلأبيض يرفض بشكل قاطع اعتماد نفقات جديدة للفضاء، خاصة وأن الإنفاق الأميركي على رحلات الفضاء على مدى نصف قرن يفوق أضعاف ما أنفقته باقي دول العالم كلها بما فيها روسيا والصين في هذا المجال». مدير وكالة ناسا السابق «شون أوكيف» الذي قدم استقالته بسبب المشاكل الداخلية في الوكالة عبر في مؤتمر مونتريال الأخير لأبحاث الفضاء عن شكره العميق لوكالة الفضاء الروسية قائلا «لقد تحمل الروس عبئا كبيرا بعد حادث المركبة كولومبيا ولولاهم وبدونهم ما كان ممكنا للمحطة الفضائية الدائمة أن تستمر في عملها». وقال أوكيف إن «الحكومة الأميركية فكرت بعد حادث كولومبيا في الانسحاب من برنامج المحطة الدائمة لكنها عدلت عن القرار بعد أن أخبرناهم أن هذا سيعني حرماننا من كل الأبحاث الخاصة بالقمر والمريخ»، الآن ينعقد الأمل لدى وكالة ناسا على التعاون مع الوكالة الروسية. حيث ستقوم السفن الفضائية الروسية «سيوز» و«بروغريس» بنقل الملاحين الأميركيين ومستلزماتهم إلى المحطة الفضائية الدولية. وتقضي اتفاقية وقعتها وكالتا الفضاء الأميركية والروسية بتزويد الولاياتالمتحدة بتسع سفن فضائية روسية الصنع خلال الفترة من 2009 حتى 2011 . لا شك أنه من حق روسيا أن تفتخر بهذا التقدم والتميز في هذه الصناعة العلمية الدقيقة، ولكن هذا لا يعني أن الأمور ستكون بالنسبة لوكالة الفضاء الروسية سهلة ومحتملة، فلقد مضى الزمن الذي تستطيع فيه دولة واحدة أيا كانت إمكانياتها أن تستمر وحدها في الفضاء، والأميركيون أنفسهم اعترفوا بذلك وأعلنوا أنهم لن يفكروا في تسيير رحلاتهم للفضاء بدون تعاون الروس معهم، ولكن هل تتحمل الميزانية الروسية الإنفاق العالي على هذه الصناعة، الواقع أن الأمر يحتاج لإعادة نظر في العلاقات مع الدول الأخرى وخاصة مع الولاياتالمتحدة في هذا المجال، وعلى الأميركيين أن يساهموا بالقدر المعقول من الأموال حتى لا يشعر الروس أنهم مغبونون أو مستغلون، ويكفى الأميركيون الاستفادة من الخبرة الروسية العالية من أجل استمرارهم في هذه الصناعة المهمة .