الأهرام: 6/4/208 أشعلت أزمة طوابير الخبز معارك فكرية مصرية, عكست رؤي ومصالح متعارضة, لكنها في غالبيتها لم تتعمق في مناقشة أصول مسألة الأمن الغذائي, رغم أن أزمة الخبز, بأبعادها وأسبابها, لا تتعدي مظهرا حادا لهذه المسألة. أقصد تعاظم فجوة الغذاء, أي الفجوة المتزايدة بين الاستهلاك والإنتاج وبين الواردات والصادرات من السلع الغذائية. وأعني تضاعف نمو السكان بمعدل لا يتناسب مع معدل نمو الانتاج الوطني للغذاء في ظل محدودية الموارد الزراعية وإخفاق السياسة الاقتصادية وتشوه التنمية الاقتصادية وعدم رشادة الاستهلاك والحصاد السلبي للعولمة. وأخيرا, تهديد فجوة الغذاء للأمن القومي لمصر, لأن الوطن الذي لا يملك قوته يفقد حرية قراره, وتهديد الأمن الإنساني للمصريين, لأن المواطن الذي لا يجد طعامه يقاسي أشد أهوال الحاجة والخوف! وفي أصول مسألة الأمن الغذائي قد يجدر أن نتذكر باديء ذي بدء أن المصريين, دون غيرهم من الشعوب, هم الذين يسمون خبزهم العيشأي الحياة! ولا يمكن فهم هذا بغير إطلالة علي تاريخ الخبز في حياة مصر والمصريين, إذ نتبين أن وفرة أو نقص انتاج الخبز, والعدل أو الظلم في توزيعه, كان شرط إزدهار أو إنحطاط مصر وحياة أو موت المصريين. ولنتذكر: أولا, أن وجود القمح في مصر يرجع إلي أقدم عصورها التاريخية, وبقي يزرع فيها طوال تاريخها المديد, وكان خبز القمح وبجانبه الشعير أساس الغذاء في مصر القديمة, وجزءا أساسيا من مرتبات الموظفين وأجور العمال تدفع حبوبا أو خبزا منذ عهد الدولة القديمة. وكان المصريون القدماء يعدون من القمح وغيره من الحبوب أنواعا شتي من الخبز, تقرب من ستين إسما أو نوعا, كما سجل علماء المصريات! وثانيا, أن الدولة في معظم عصور تاريخ مصر, من العصور الفرعونية حتي العهد الفاطمي, كانت مالكة الأرض وموزعة الحصاد, وفي أراضي الدولة قام الفلاح بزراعة القمح بالأساس في حيازات تراوحت بين ثلاثة وخمسة أفدنة. واحتلت الشون العامة للقمح مكانة عظيمة في إدارة مالية الدولة حيث كان علي الفلاحين تسليم كل محصولهم, لتخصم منه أولا الضريبة, المقننة حسب نوعية ومساحة الأرض, شاملة نفقات جهاز الدولة وتكاليف الأشغال العامة وما يلزم من مخزون للسنوات العجاف, ثم ينالون بين ثلثي ونصف المحصول, لغذائهم وأسرهم ومقايضة احتياجاتهم, وهو ما أنتهك بظهور الاقطاع والالتزام. وثالثا, أن المصريين القدماء قد حرصوا علي زيادة إنتاج وإنتاجية القمح والخبز لتغطية الاستهلاك الجاري والمستقبلي, فنقرأ بين مأثورات أقوال حكماء مصر القديمة: احرث الحقول حتي تجد حاجتك وتتسلم خبزك من جرنك الخاص بك! ومنذ فجر التاريخ يحذرون من الإعتداء علي الأرض الزراعية, لا تبن دارا في أرض الزراعة! ويدعون إلي عدالة التوزيع بوصيتهم' لا تأكل خبزا حين يكون هناك آخر يتضور جوعا'! و'إعط الخبز لمن لا أرض له'! و'لا تتطلع إلي رغيف الفقير لأنه غصة في الحلق'! وكان إهدار عدالة التوزيع وقصور الأشغال العامة وإخفاق التصدي لأهواء الفيضان مبعث أول ثورة اجتماعية في التاريخ, وما ترتب عليها من إنهيار للدولة القديمة المركزية الموحدة وتفككها إلي مقاطعات متصارعة, بعد نحو ألف عام متصلة من نهوض اقتصادي واستقرار سياسي وإزدهار حضاري ووحدة وطنية ارتكزت جميعا إلي كفاءة الحكم وإعلاء قيمة العدل' ماعت'! ورابعا, أن مكانة مصر الخاصة لعاصمة الإمبراطورية الرومانية ثم حاضرة الخلافة الإسلامية ارتكزت بالأساس إلي كونها موردا للقمح. ومرة أخري, كان إهمال الحكم للأشغال العامة وطغيان البراري والصحراء علي الأرض المزروعة وراء ما عرفته مصر من مجاعات متوالية في العصور الوسطي, سببت التناقص المخيف للسكان إلي ما بين ربع وثلث عددهم عشية ولاية محمد علي مقارنة بعهود الإزدهار منذ الفراعنة وحتي البطالمة! ولعل الدرس البليغ لتاريخ مصر, القديم والوسيط, يتلخص في أن الحالة الحسنة أو السيئة للمحاصيل الغذائية كانت تتوقف علي ما إذا كانت الحكومات حسنة أو سيئة! وأن حياة وموت المصريين كانت تتوقف علي كمية وعدالة توزيع انتاجهم من الغذاء! ومن هنا كان رفع المصريين حكامهم إلي عنان السماء حين تحلوا بالكفاءة وراعوا العدالة وعززوا الاستقرار! وأما في تاريخ مصر الحديث, فنسجل أن محمد علي الذي فرضه المصريون واليا, وصف مصر بأنها' وردة' ود لو تترك له فرصة أن يعني بها لتزدهر! وهو ما تحقق وكان! فرغم احتكار الدولة للإنتاج وتوزيعه وإجبار الفلاحين علي بيع محصولهم بأسعار بخسة مقارنة بما تحصل عليه الوالي من تصدير القمح إلي أوروبا! فقد نالوا نحو ستة أضعاف ما كانوا يتحصلون عليه من قبل! ورغم أنهم لم يأكلوا القمح بل الذرة الشامية والعويجة من حيث الأساس فقد تحسن غذاؤهم وتضاعفت أعدادهم. والأهم أن ما إحتكره الوالي من فائض وجد سبيله للاستثمار في: إقامة أول منظومة للري الدائم, ومضاعفة الأرض المزروعة وانتاجها, وإدخال محاصيل تجارية مربحة كالقطن, ومقايضة صادراتها بمستلزمات التصنيع المستوردة, وتحديث التعليم وإرسال البعثات العلمية, وبناء جيش وأسطول مصريين وغير ذلك من ركائز مصر الحديثة! ثم كان الجديد الخطير حين حول الاستعمار مصر إلي مزرعة للقطن علي حساب زراعة القمح وغيره من منتجات الغذاء, فبدأت مصر تتحول من دولة مصدرة للقمح والسلع الغذائية إلي دولة مستوردة لها باستمرار واطراد, باستثناء فترات الحروب العالمية التي كانت حصن زيادة انتاجها! وتحول الفلاحون المفقرون إلي أكلة الذرة غزيرة الغلة والمالئة للبطن لتصبح غذاءهم الأساسي عوضا عن القمح في خطوة إلي الوراء من وجهة نظر التغذية حيث يتفوق القمح علي الذرة في البروتين والقيمة الغذائية, كما سجل جمال حمدان. أما عن عهد ثورة يوليو وعهود الإنفتاح والإصلاح والعولمة فأكتفي بتوضيح ثلاث حقائق أراها جوهرية في فهم أصول مسألة الأمن الغذائي لمصر والمصريين: أولا: إن الفجوة الغذائية قد تفاقمت مع تضاعف عدد السكان واستهلاك الغذاء بمعدلات تفوق نمو المساحة المزروعة وانتاج الغذاء. وهكذا, فإن استهلاك القمح قد تضاعف من2.1 مليون طن في عام1960 إلي4.5 مليون طن في عام1974 ثم إلي7.2 مليون طن في عام1980. وفي ذات الأعوام زاد متوسط نصيب الفرد من استهلاك القمح من80 كيلوجرام إلي123 كيلو جراما ثم الي171 كيلوجرام. وإزاء قصور الانتاج المحلي عن تغطية الاستهلاك انخفض معدل الاكتفاء الذاتي من القمح ودقيقه من69,8% الي41,6% ثم إلي24,8% في الأعوام المذكورة! كما سجل أستاذ أساتذة الموارد جمال حمدان قبل ربع قرن! وثانيا: أن عدد المصريين قد زاد من26.9 مليون نسمة الي36.6 مليون نسمة في عام1976, ثم إلي72.6 مليون نسمة في عام2006. وفي المقابل, زادت المساحة المحصولية من10.4 مليون فدان في عام1960 إلي10.9 مليون فدان في عام1975, ثم الي13.6 مليون فدان في عام2006. وهكذا, بين عامي1960 و2006, زاد السكان بنحو2.7 مرة بينما لم تتعد زيادة المساحة المحصولية1.3 مرة, أي أن زيادة السكان بلغت أكثر من ضعف زيادة المساحة المحصولية! وكان منطقيا أن تقلص نصيب الفرد من المساحة المحصولية من0,39% فدان الي أقل من0,19% فدان في نفس الفترة! وثالثا: أن تهديد الأمن الغذائي لمصر والمصريين قد تفاقم رغم انخفاض معدل نمو السكان من2,75% بين عام,1976 وعام1986 إلي2,05% بين عام1996 وعام2006, ثم إلي1,9% في أحدث التقديرات! ومهما تكن جهود مضاعفة انتاج وانتاجية المحاصيل الغذائية بالتوسع الأفقي والرأسي, ورغم الأولوية القصوي لوضع وتنفيذ سياسة زراعية تجمع بين أدوار الدولة والسوق وتستهدف الاكتفاء الذاتي من القمح والغذاء, فإن القيود الطبيعية علي موارد الأرض والمياه, تفرض علي مصر أن تدرك أولوية التصنيع الذي لا يعرف سقفا للنمو. وهذا البعد من الأمن الاقتصادي القومي يستحق إطلالة مستقلة, لكن لحديثنا عن الأمن الغذائي بقية تتعمق فيما أوجزته في مطلع هذه الإطلالة!