الأهرام:27/01/08 كان منطقيا أن يكون رفض قرار الكونجرس الأمريكي باستخدام سلاح' المعونة' ضد مصر محل إجماع وطني مصري, إذا استثنينا' قلة' من الأمة تتوهم الاستقواء بالأجنبي! فقرار اللوبي الموالي لإسرائيل, المتذرع بما أسماه إخفاق مصر في مكافحة أنفاق غزة, لم يتعد في جوهره استخداما لأداة من أدوات القوة الاقتصادية لإخضاع الإرادة الوطنية المصرية. ورغم وحشية جرائم إسرائيل ضد الإنسانية, لتعزيز عنصرية وتوسعية' الدولة اليهودية', لم يستح القرار أن يتستر بذريعة' حماية' حقوق الإنسان في مصر! لكنه ليس مفهوما أن ينقسم رد الفعل الوطني المصري بترحيب' بعض' من النخبة بقرار البرلمان الأوروبي, المماثل والصادر في توافق- وربما تنسيق- لا يخفي بين حلفاء الأطلنطي! فقرار' أوروبا الجديدة' ينذر دون ريب باستخدام محتمل لسلاح' المعونة', وإن بدا أكثر تزينا بمزاعم حق التدخل' الإنساني'! قد أقحم بدوره تهمة الأنفاق! بينما ترتكب إسرائيل جرائم عقاب جماعي- بل إبادة جماعية- ضد أسري غزة, بذريعة إسكات صواريخ احتجاجية خائبة الأثر! وحول سلاح' المعونة', في ارتباطه بقضية حقوق الإنسان المصري, اكتفي بكلمتين عن المدعي والمتهم! فأذكر' المدعي' أن مصر- فجر الضمير وبوتقة التعايش- في تاريخها المديد وحتي حاضرها المعيشي, لم تعرف' انتهاكات جسيمة' لحقوق الإنسان من نوع: جرائم' العنصريين الأمريكيين' ضد مواطنيهم السود, من قبل, وجرائم' المحافظين الأمريكيين' ضد شعب العراق بزعم محاربة الإرهاب, من بعد! وجرائم استرقاق' المستعمرين الأوروبيين' للأفارقة, من قبل, وجريمة محرقة' النازيين الأوروبيين' ضد اليهود, من بعد! وجرائم إرهاب' المنظمات الصهيونية' ضد شعب فلسطين لطرده واغتصاب وطنه, من قبل, وجرائم حرب' جيش العدوان' الإسرائيلي ضد الشعوب العربية بغية التوسع والهيمنة, من بعد! ولن أزيد في فضح ازدواج معايير خطاب حقوق الإنسان فقد تجلي إبان زيارته الأخيرة في دموع الرئيس بوش علي ضحايا' محرقة' عنصرية ضد اليهود وقعت قبل أن يولد, مقابل تبريره' مذبحة' عنصرية ضد الفلسطينيين تتواصل طوال حياته وولايته! ولغوه عن الإسرائيليين رمز' الحرية' والفلسطينيين رعاة' الإرهاب'! وما قام به من توزيع' شهادات الديموقراطية' علي بعض بلدان العرب فإنه لم يخف سعيه إلي نزف مزيد من الثروة العربية لتمويل الأرباح الدامية للصناعة العسكرية الأمريكية وبناء تحالف يمهد لحرب محتملة ضد إيران, وفي الحالتين نذير بمزيد من جرائم الحرب, بضحاياها من العرب والفرس! وأضيف بشأن' المتهم' أن الرئيس بوش في زيارته العابرة لشرم الشيخ لم يستطع تجاهل دور الدولة المصرية في بناء السلام الإقليمي, وحيوية المجتمع المدني المصري في عملية التحول الديموقراطي, لكنه تجاهل أن الضغط الاقتصادي علي مصر لن يثمر سوي زعزعة ركائز السلام والديمقراطية معا! والأهم أن مصر, التي لم تحظ بشرف' شهادته' المجروحة, قطعت أشواطا مهمة في عملية تعزيز حقوق الإنسان والمواطنة, لا ينكرها أي محلل موضوعي, تجرد من' النفاق' و'الابتزاز'. وقد أشير, مثلا, إلي: نشاط منظمات حقوق الإنسان وإن شاب بعضها عوار التأثر بأجندة التمويل الأجنبي, وحرية الصحافة وإن شاب أغلبها افتقار للمعايير المهنية الواجبة, وأحكام أخيرة عادلة ضد مرتكبي جرائم تعذيب وإذلال وإن كانت لا تسقط كغيرها بالتقادم, وأحزاب معارضة تتسع لكافة التيارات السياسية الديموقراطية في المجتمع وإن عجزت عن طرح خيارات بديلة تعمق جذورها الجماهيرية, والتزام معلن بإنهاء حالة الطوارئ وتعميق الإصلاح السياسي.. إلخ. ولاريب أن المصريين- بتنامي المجتمع المدني وحكمة القيادة السياسية- قادرون علي تفعيل كل ما يستحقون من حقوق وحريات بجدارة حضارتهم ومكانة وطنهم ووحدتهم الوطنية! وسوف تتسارع الخطي في إطار الاستقرار, إذا تحول أعضاء' الجماعة المحظورة' إلي حزب سياسي يلتزم بمرجعية الدستور ويسلم بحقوق المواطنة ويعلي الوطنية المصرية, وإذا جري بناء اقتصاد سوق اجتماعي يعزز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين والمسئولية الاجتماعية للرأسماليين! أما عن سلاح' المعونة', في ارتباطه بالأمن الاقتصادي القومي المصري, فاكتفي بكلمتين أيضا عن التهديد والاستجابة! فقد أشير بداية إلي تقرير مهم لمعهد راند لبحوث الدفاع القومي الأمريكي يؤكد أن لسياسات الأمن القومي مكونين: أولهما استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف اقتصادية, وثانيهما استخدام القوة الاقتصادية لتحقيق أغراض عسكرية. ويفصل التقرير موضحا أن المساعدات الخارجية الاقتصادية والعسكرية والتقنية والمزايا التجارية يمكن استخدامها بمثابة' جزرة'! وأن العقوبات الاقتصادية مثل الحظر الاقتصادي وتجميد الأصول المالية وتقييد الوصول للسوق الأمريكية يمكن استخدامها بمثابة' عصا'! ويعلن بوضوح أنه حين تستخدم الأدوات الاقتصادية, كأدوات مساعدة لسياسة الأمن القومي, يمكن أن تماثل الأدوات العسكرية في تأثيرها! وتشدد إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام2002 علي ربط' المعونة', وغيرها من المعاملات الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة, بتلبية تحدي الإصلاح واحترام حقوق الإنسان وإنشاء البنية التحتية للديمقراطية! وتعلن إن السوق الحرة والتجارة الحرة هما الأولويتان الرئيسيتان في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي. ومن ثم فإن موقف مصر- قيادة وشعبا- الرافض للتهديد بسلاح' المعونة' ينطلق من إدراك سليم بأنه لا يعدو استخداما' للقوة' الاقتصادية لفرض إملاءات سياسية! وغير هذا الموقف لن يكون سوي رضوخ' للابتزاز', يمهد لإخضاع الإرادة السياسية المصرية دون قيد أو شرط' للإرادة الأمريكية الإسرائيلية'. لكن الأهم أن استجابة مصر يجب ألا تقف عند التوجه الرسمي المعلن للاستغناء عن المعونة, وإنما يجب أن تتعلم إيجابيا من تاريخها الحديث. فقد كان فرض' سياسة الباب المفتوح' أداة تقويض الصناعات الحديثة والقوات المسلحة في عهد محمد علي. وكان نصب' فخ الديون الخارجية' في عهد إسماعيل ذريعة انتهاك السيادة ثم الاحتلال البريطاني. وكان الحصار الاقتصادي وقطع المعونة الغذائية أدوات بديلة لإخفاق حرب السويس في عهد عبد الناصر. وإذا كانت إدارة عبد الناصر لصراع الإرادات قد دفعت بمصر إلي هزيمة1967, فإن إدارة السادات لذات الصراع تجسدت في تسليمه الشهير بأن99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا! وقد نجحت مصر في عهد مبارك في تقليص خسائر هذا الصراع بين الإرادات, بفضل إدارته الوطنية والحكيمة للسياسة الخارجية المصرية, وقد تجسدت أمثلتها الأحدث في رفضه الحاسم للابتزاز بالمعونة, وسعيه الجاد لإنهاء حصار غزة, ومعالجته الحكيمة لإقتحام معبر رفح, ودعوته للحوار بين فتح وحماس. وأشهد- حين كنت برفقة سيادته في زيارته الأخيرة لأمريكا- رفضه الفوري والقوي والعلني في هيوستن لوعد بوش المشئوم لشارون, باعتباره تقويضا لفرص السلام في المنطقة. وفي هذه المواقف وغيرها لم يدفع بمصر إلي مغامرة الصدام بل عمل علي تعميق التعاون علي أساس تبادل المصالح. وتبقي ملاحظتان يستحق كل منهما إطلالة لاحقة. الأولي, أن إستراتيجية الأمن القومي المصري لابد أن تتضمن رؤية إستراتيجية للتصنيع والتنمية في عصر المعرفة بما يضاعف القوة الاقتصادية ويعزز السيادة الاقتصادية ويرتقي بالقدرة التنافسية, ويحقق الأمن الغذائي ويعزز الأمن المائي ويوفر أمن الطاقة, ويكفل عدالة التوزيع, وغير ذلك مما لا ينبغي تركه لقوي السوق الحرة وحدها, وتستطيعه مصر! والثانية, أن الأمن الإنساني, أي أمن وحقوق الإنسان الفرد في تكامله وليس تناقضه مع الأمن القومي للدولة, صار يشغل الرأي العام الغربي, الفاعل في صنع القرار واختيار الحكام, بغض النظر عن ازدواجية معايير غالبية الحكومات الغربية, وهو ما لا ينبغي الرهان علي تجاهله. والأهم, أن ما شهدته مصر من حراك مجتمعي في العام الماضي, قد أثبت حيوية الأمة وحكمة القيادة, وكشف بجلاء استحالة تجاهل حقوق المواطن دون ثمن فادح!