تضع التطورات التاريخية التي شهدها لبنان امس مع خلو سدة رئاسة الجمهورية وبدء مرحلة الفراغ الرئاسي البلاد باسرها امام منعطف لم تشهده سابقاً الا عام 1988 قبل التوصل الى اتفاق الطائف، ولكن مع فارق جوهري هذه المرة هو ان الموقع السياسي لاهم طائفة مؤسسة للكيان اللبناني المستقل وهي الطائفة المارونية يبدو مهدداً فعلاً بالذوبان وبالتلاشي على اخطر نحو عرفه هذا الدور الرائد. ذلك انها المرة الثانية في تاريخ الاستقلال اللبناني قبل 64 عاماً تخلو الرئاسة اللبنانية من الرئيس، كانت المرة الاولى عام 1988 حين انتهى عهد الرئيس امين الجميل الى فشل في انتخاب رئيس جديد وقامت انذاك حكومتان برئاستي العماد ميشال عون والرئيس سليم الحص بقيتا في سلطتين منقسمتين الى حين ابرام اتفاق الطائف في خريف 1989 وانتخاب الرئيس رينيه معوض ومن ثم الرئيس الياس الهراوي. والخشية الكبرى التي سادت المسيحيين امس مع رؤيتهم كرسي بعبدا خالية مرة اخرى هو ان يؤدي الفراغ الجديد الى ما هو اسوأ اي الى تكريس واقع التقهقر التدريجي والتآكل في موقع المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً في حال التأخر في التوصل الى توافق جديد يؤمن انتخاب رئيس ولو بعد مرور المهلة الدستورية. فتسليم الجيش السلطة الامنية على الارض بتفويض من الرئيس المنتهية ولايته اميل لحود وبتوافق سياسي عام من سائر القوى احدث الضمان الوحيد بان البلاد لن تتجه في متاهة تدهور امني او فوضى سياسية عارمة. ولكن ذلك لم يخف النتيجة «المفجعة» كما يراها كثيرون وهي ان فراغ الرئاسة شكل الثمن الضخم لضعف موقع المسيحيين بين مجموعة لاعبين محليين واقليميين ودوليين كبار وعجز قادة الموارنة عن كسر هذه المعادلة بفعل فشلهم على التوافق على مرشح لو توصلوا اليه لكان الطريق الوحيد الى اعادة تثبيت حضورهم ودورهم السياسي في هذه المعادلة. فما هي الاحتمالات التي ستنشأ عن هذا الواقع الجديد؟ - اولاً: بات مسلماً فيه ان السلطة انتقلت دستورياً الى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة منذ منتصف ليل الجمعة - السبت. ولكن هذا الانتقال بدا مشروطاً بعدم ممارسة هذه الحكومة صلاحيات واسعة كما تنيطها به المادة 62 من الدستور، اي انها لن تقوم باي عمل او تتخذ اي قرار بمفهوم هذه المادة التي تنيط صلاحيات الرئاسة وكالة بمجلس الوزراء مجتمعاً، بل ستتولى تصريف الاعمال في اضيق حدوده بما يكفل فقط استمرار دورة المؤسسات والحياة العامة. وهذه الحال الطارئة تعني من ضمن ما تعنيه ان المعارضة قبلت ضمناً بذلك في مقابل تعهد الموالاة بعدم انتخاب رئيس بالنصف زائد واحد وعدم تشكيل المعارضة حكومة ثانية. ثانياً: مع تأجيل جلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية الى الجمعة 30 نوفمبر يبقى مسار المشاورات مرتبطاً بمبادرتي الرئيس نبيه بري والبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير والوساطة الفرنسية من حيث المبدأ. لكن قد تسفر الايام المقبلة عن مسار جديد سيظهر بسرعة وهو امكان تجاوز الاسماء السبعة للمرشحين الرئاسيين في لائحة صفير الى اسماء اخرى قديمة وجديدة، اذ لا شيء يضمن ان يظل البحث جارياً على اسماء المرشحين ميشال عون ونسيب لحود وبطرس حرب وروبير غانم وميشال الخوري وميشال اده ورياض سلامة بعد دخول البلاد مرحلة الفراغ لان معطيات اخرى طارئة دخلت على المشهد ولن يكون ممكناً تصور حصر المباحثات بالاسماء السبعة وحدها بعدما فشل الاطراف في التوصل الى توافق على اي منها. ثالثاً: بدأت المخاوف تتنامى من امكان حصول خلط اوراق داخل صفوف كل من الفريقين السياسيين في البلاد. فثمة تناقضات برزت في صفوف الغالبية في اجتماع قوى 14 مارس مساء الخميس الماضي، كما ان ثمة تعارضاً واضحاً بدأ يتضح داخل المعارضة بين كل من الرئيس بري والعماد ميشال عون. تبعاً لذلك سيكون المشهد المقبل عرضة لتغييرات جذرية محتملة ستنعكس على مسألة الترشيحات والمرشحين بغير المعايير السابقة. ولبنان الذي اصبح من دون رئيس بدأ مرحلة مجهولة لم يعد ممكناً الجزم باي تطورات، فكل ساعة تحمل معها مفاجأة والخوف على انهيار الجمهورية اصبح واقعاً ملازماً للفراغ في كرسي بعبدا.