ظاهرة الجدل السياسى حول الأحكام القضائية تثير القلق، وتحمل فى أعطافها نذر خطر على هيبة الدولة المصرية، وعلى شرعيتها التاريخية، بل والأخطر على قدراتها على الحفاظ على صورتها أمام مواطنيها، وإزاء المجتمع الدولى والكونى لاسيما فى ظل بعض من تفكك فى تماسكها وتجانسها البنيوى، وتناقضات بين بعض سلطاتها وأجهزتها. أن الخوف الكامن من بين ثنايا التعليقات السياسية، يتمثل فى تجريح رأسمال الثقة بين القضاء والقضاة، وبين المواطنين والذى تمثل فى شيوع إدراك شبه جمعى بالثقة فى استقلالية وحيدة ونزاهة المؤسسات القضائية فى أثناء نظرها للمنازعات القانونية والجنائية تحديداً- بعيداً عن التأثر السياسى أو الدينى أو الحكومى، الذى تحاول بعض الجهات أحياناً أن تتدخل فى مسار العملية القضائية، ولا تجد من الجماعة القضائية سوى الصد، والرفض لأى تدخل فى أعمالها أياً كان من شأنه التأثير على إصدار المحاكم أياً كانت درجاتها ومستوياتها داخل النظام القضائى على تعدده- للأحكام القضائية والجنائية، لاسيما تلك التى يكون موضوعها أو بعض أطرافها سياسيا. هذا الإرث التاريخى من رأسمال الثقة ستهدده بعض من الفوضى والتوظيفات السياسية للأجهزة الإعلامية المرئية والمكتوبة والمسموعة- لاسيما بعض الفضائيات لبعض الأحكام ذات الطبيعة السياسية أو الدينية أو المذهبية أو الاجتماعية، أن الطبيعة السجالية والأثارية فى بعض التعليقات من غير المتخصصين ومن بعض السياسيين وغيرهم من الأحاد، تعكس انطباعات سريعة، بل وفى غالب الأحيان عدم معرفة دقيقة بالقانون، والجوانب الموضوعية أو الإجرائية لكل قضية من هذه القضايا، وعما إذا كانت أحكام حضورية أم غيابية. أن تكاثر أحكام الإعدام خلال الفترة الانتقالية وسرعة إصدارها على المتهمين، تؤدى إلى كثافة توظيفها فى الدعاية السياسية المضادة ممن صدرت فى حقهم الأحكام وغيرهم ومن الأطراف الإقليمية تركيا وقطر.. الخ- والدولية- الولاياتالمتحدة ودول المجموعة الأوروبية وآخرين إزاء العمليات السياسية الانتقالية فى مصر بعد 30 يونيو 2013. لا شك أن ذلك يولد مزيداً من الضغوط على الحكومة والسلطة الانتقالية. من ناحية أخرى الأحكام القضائية الصادرة فى بعض القضايا السياسية فى عديد من دول العالم لم تعد شأناً داخلياً، وفق مفهوم السيادة التقليدى الذى ارتبط بالدولة القومية، ومن ثم سلطان القضاء الوطنى الداخلى فى نظر المنازعات والفصل فيها، وإنما باتت الأممالمتحدة والمنظمات الدولية العالمية والإقليمية، والمنظمات الحقوقية فى المجال العولمى تبدى ملاحظاتها النقدية، وتمارس ضغوطها السياسية إزاء بعض الأحكام القاسية، وعلى رأسها عقوبة الإعدام التى ألغتها دول كثيرة فى عالمنا، لاسيما فى قضايا سياسية. أن ردود الأفعال الكونية ليست قصراً على الحالة المصرية، وإنما تمتد إلى دول العالم. من هنا نحن أمام ظواهر جديدة ومختلفة تماماً عن بيئة العمل القضائى التاريخية التى ألفناها وتعايشنا معها طيلة تاريخنا القضائى العريق. ساهمت الثورة الرقمية للمعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة- فى ازدياد ردود الأفعال وفوريتها أيا كان مكان حدوثها، ولم تعد القرارات السياسية أو الثقافية، أو الأحكام القضائية، أو الفتاوى الدينية الداخلية.. الخ بمنأى عن الانتقادات والسجال معها وحولها، وردود أفعال الدول والمنظمات الدولية، ونشطاء المجال العام الافتراضى الكونى، ولم تعد الانتقادات قصراً فقط على العلماء والخبراء والفقهاء وأهل التخصص فى كل مجال، وإنما باتت أمراً يهم الإنسانية فى عمومها. هذا التحول النوعى كونياً هو الذى يكمن فى حدة وعنف ورفض بعض الأحكام القضائية الصادرة بالإعدام فى قضايا يتداخل فيها السياسى مع الجنائى، مع الإدارى، مع الدستورى، ومن ثم حالة الصخب التى تثار دولياً الآن، ليس حول الحالة المصرية، وإنما فى عديد الحالات السابقة واللاحقة. أن توقيع اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، والتطور فى مجال القانون الإنسانى الدولى، بات يشكل أحد الكوابح التى باتت تؤثر وقد تغل السلطات والحكومات والإدارات الوطنية من إصدار القرارات السياسية وغيرها إزاء خصومها السياسيين. من هنا يمكن فهم ازدياد ردود الأفعال الغاضبة والانتقادات اللاذعة حول تسييس بعض الدول والسلطات فيها للقضاء وأحكامه سواء على المستوى العولمى الرسمى أو المجتمع المدنى وتأثيراته على القرار السياسى فى الدول الكبرى، والمنظمات الدولية، واستخدام قواعد المشروطية السياسية فى إطار صناديق التمويل الدولية، فى الربط بين منظومات من المعايير السياسية والحقوقية، وبين منح أو منع هذه الدول والمؤسسات الدولية المنح والمساعدات والقروض لعديد من الدول الأقل تطوراً والمعسورة. أن تزايد العنف الخطابى واللفظى حول بعض الأحكام القضائية يعود لأسباب داخلية على رأسها: اضطراب مراحل الانتقال السياسى، وعدم فهم أسباب البراءات فى أحكام صادرة ضد بعض رموز نظام مبارك، وأنها ترجع إلى أنها قدمت وتفتقر إلى أدلة ثبوتية من جهات الضبط وجمع الأدلة والتحقيق، ومن ثم قضى فى غالبها بالبراءة. لا شك أن ذلك ساهم فى تزايد الانتقادات السياسية للسلطة القضائية من النشطاء ورجال السياسة، و استخدمت فى الحشد الجماهيرى التظاهرى، أو فى نقد السلطة الانتقالية- بما فيها مرحلة حكم الرئيس محمد مرسى- ، وهذا النقد جاء من البرلمان المنتخب آنذاك، ومن بعض رجال السياسة والقانون. لا شك أن هذه البيئة السياسية المضطربة، والسائلة قد تؤثر على صورة القضاء فى الوعى والإدراك الجمعى للغالبية الساحقة من المصريين، التى استقر فى وجدانها ووعيها الثقة فى عدالة وحيدة ونزاهة القضاء المصرى العريق، وقضاته المتميزين، إن القضاء المصرى يشكل أحد أهم المؤسسات القضائية مع الهند فى جنوب العالم، ومن ثم يتعين المساهمة الفعالة فى دعم استقلاله وحيدته بكل قوة فى المرحلة الانتقالية وما بعدها. وللحديث بقية.