منح المشير عبدالفتاح السيسي بترشحه انتخابات الرئاسة المقبلة زَخْمَا غير عادي ومثلما تعلق رجاء غالبية المصريين لحظة خروجهم المجيد في الثلاثين من يونيو الماضي بمن يقف في صف طموحهم المشروع في قيادة جديدة تعيد الأمور إلى نصابها في بلدهم، تجدد الأمل لدى تلك الأغلبية في تقلد رئيس من طراز مختلف السلطة، يحلم بوضع نهاية لسنوات من هموم وطن ضربه الفساد والمحسوبية والظلم الاجتماعي فلم يعد قادرًا على النهوض من كبواته المتتالية، ولم تفلح ثوراته الشعبية ضد فشل السلطة في إعادة قطار الوطن إلى القضبان من جديد بعد أن عبثت به قوى ظلامية متخلفة كادت تدخلنا جميعًا في حلقات كارثية من فشل الدولة. كعادته.. كانت كلمات المشير السيسي، في ليلة الظهور الأخير بالزي العسكري أمس الأول، مباشرة في عرض حقائق الأوضاع الاقتصادية الحرجة والتحديات السياسية والأمنية التي تواجه مصر دون أن ينكر على أي مرشح آخر الحق في المنافسة ودون أن يحتكر لنفسه امتلاك الحلول، بل راح يعدد المصاعب من بطالة ومرض مؤكدا حق المصريين في الحصول على عمل وغذاء وتعليم وعلاج وسكن في متناول اليد، وقد كانت مكاشفة واضحة وصريحة فإنه أيضا راح يضع المهام الأساسية "العسيرة" التي يتعين على الحاكم والمحكوم أن يمضوا في إنجازها تحت قيادة جديدة، وهي المهام التي لا تحتمل خلافات سياسية، ويجب ألا تنتظر تنازلات لقوى الإرهاب الغاشمة أو لقوى الفساد الهائمة وتلك المهمات العاجلة أوجزها في الآتي: إعادة بناء جهاز الدولة الذي يعاني حالة ترهل تمنعه من النهوض بواجباتِهِ، وهذه قضيةٌ لابد من مواجهتِها بحزمٍ لكي يستعيدَ قُدرتَهُ، ويستردَ تماسكَهُ، ويصبحَ وحدةً واحدةً، تتحدثُ بلغةٍ واحدةْ. إعادةُ عجلةِ الإنتاجِ إلى الدورانِ في كل القطاعات لإنقاذِ الوطنِ من مخاطرَ حقيقية. إعادةُ ملامح الدولة وهيبتها، التي أصابَها الكثيرُ خلالَ الفترةِ الماضيةِ.. مهمتُنا استعادةُ مِصرْ وبناؤها. صناعة المستقبل هي عقد بين الحاكم والشعب، وعلينا الالتزام بالعمل والجهد... والصبر. وقف الاستهتار والعبث، وإن لم يتم ذلك فهناك عواقب وهناك حساب، فالدولة ومؤسساتها لن تسمح بأن تكون مصر طرفا في ألعاب أطراف داخلية وامتداداتها الإقليمية والدولية. تربط الرؤية التي يقدمها السيسي بين ثلاثة أركان رئيسية (جهاز الدولة القوي عجلة إنتاج تدور بانتظام وكفاءة استعادة ملامح الدولة وهيبة الحكم)، وهي ثلاثة مكونات لا يمكن أن تتحقق ما لم يكن لدى المرشح الأقوى للرئاسة برنامج واضح يقدم رؤى واقعية وليس الكلام الأجوف وبرامج المائة يوم وغيرها من الأفكار الفارغة التي أفقدت المصريين الثقة في السلطة السابقة وشكلت انتكاسة خطيرة كادت تعصف بالدولة وبنيانها. هذا هو ما تجلى في توضيحه لاحقا في خطابه "ما شهدته مصر خلال السنوات الأخيرة، سواء على الساحةِ السياسيةِ أو الإعلاميةِ، داخليًا أو خارجيًا، جعل من هذا الوطن في بعضِ الأحيانِ أرضًا مستباحة للبعضِ، وقد آنَ الأوانُ ليتوقف هذا الاستهتارُ وهذا العبثُ، فهذا بلدٌ له احترامُهُ وله هيبتُه، ويجب أن يعلم الجميعُ أن هذه لحظة فارقةٌ، وأنّ الاستهتارَ في حقِ مصرَ مغامرةٌ لها عواقِبُها، ولها حسابُها، مصرُ ليست ملعبًا لطرفٍ داخلي أو إقليمي أو دُوَلي". إذن.. من أهم دعائم خطاب المرشح الرئاسي الأبرز والأوفر حظا للفوز بالمنصب مسألة إيمانه ب"مكانة مصر وهيبتها ودورها" وأن ما يجري من "استهتار" في حق الدولة وكيانها سواء من نفايات عصر الإخوان وعصر الفساد وعصر الصفقات بينهما في الداخل، وقوى إقليمية يتملكها الغرور والرغبة في لعب أدوار أكبر من حجمها الفعلي، وقوى كبرى عالميا تريد أن تفرض سياسات الإملاء على غرار النسق البائد القديم الذي أسهم فعليا في سقوط نظامي حسني مبارك ومحمد مرسي بفشلهما في الالتفات إلى معاناة الشعب واستغراقهما في تأمين السلطة على حساب السواد الأعظم.. الفارق أن مبارك طال به الزمن إلى 30 عاما حتى يسقط بينما لم يستغرق الأمر أكثر من عام واحد لزوال حكم جماعة الإخوان ورجلها في قصر الرئاسة. اليوم.. يتنافس عبدالفتاح السيسي وحمدين صباحي وربما آخرون على حكم مصر والتحدي الحقيقي أمام الكل في برامجهم وسياساتهم المرتقبة هو كيفية مواجهة منظومة الفساد والانفلات في جميع مؤسسات الدولة وغياب المحاسبة والمسئولية ووضع تلك المشكلات على قائمة الأولويات.. وبقدر ما يثق الناس في مرشح بعينه بقدر ما يترقبون ما سوف يقدم عليه لتحقيق تلك الأهداف دون تراخ أو تخاذل مع قوى الفساد المجتمعي التي مازالت تنشب مخالبها في كل جنبات أجهزة الدولة ومؤسساتها وتعرقل التحديث والتطوير في معظمها ولم يعد هناك وقت للتصدي لتلك القوى وهو ما يضع مسئولية هائلة على عاتق المرشحين وبالأخص المرشح الأبرز والأكثر دراية بدولاب العمل في الدولة المصرية، وقد كانت عبارته في خطاب الترشح "أنا لا أُقَدّمُ المعجزاتِ، بل أقدّمُ العملَ الشاقَ والجهدَ وإنكار الذات بلا حدود" دالة في معانيها وفي تقدير الرجل لحجم المطلوب منه في مرحلة محفوفة بمخاطر جمة. وقد كان المرشح الأكثر شعبية أيضا واثقا من الدعم الشعبي لكل جهد يبني ولا يقوض الحلم في غد يليق بجماهير ثارت من أجل المستقبل عندما قال "أقفُ أمامَكُم وليست بي ذرةُ يأسٍ أو شك، بلْ كلّي أملٌ، في اللهِ، وفي إرادتِكُم القويِة لتغييرِ مصرَ إلى الأفضلِ"، ثم وضع السيسي ميثاقا بينه وبين الناخبين قبل أن يشرع في حملته الانتخابية رسميا يؤكد على تلك الشراكة الجديدة بين رئيس وشعب يتوق إلى الغد الأفضل حينما قال "صناعةُ المستقبلِ هي عملٌ مشتركٌ، هي عقدٌ بين الحاكم وبين شعبه، الحاكم مسئول عن دوره وملتزم به أمامَ الله وأمامَ شعبه، والشعب أيضًا عليه التزامات من العمل والجهد والصبر، لن ينجح الحاكم بمفرده، بل سينجح بشعبه وبالعمل المشترك معه".. شراكة الشعب والحاكم هي المعادلة المفقودة التي تحتاج إلى بصيرة وإرادة جديدة من جميع المصريين حتى نخرج من تيه التخبط الحالي إلى غد أكثر إشراقا "معادلة لايبتعد عنها الأفق العربي والتوجه العروبي بقوله: سأظل أحارب كل يوم من أجل مصر خالية من الخوف والفزع والإرهاب ليس في مصر فقط بل المنطقة بأكملها". مصر في قمة الكويت.. الرهان على القوى العربية المعتدلة المشهد الداخلي في الساعات الأخيرة لا يبتعد كثيرا في معانيه ومقاصده عما دار في القمة العربية التي اختتمت أعمالها أمس الأول الأربعاء ببيان يمنح قوى الاعتدال العربي الواقفة ضد الإرهاب وداعميه مواقف أكثر صلابة وقد كانت مصر تنشد إجماعا بين الدول الأعضاء في قمة الكويت إلا أن حسابات البعض مازالت تزين لهم أن مصالحهم تتحقق عندما يقتصون من دور الدولة الأكبر في المنطقة وعندما يشعلون النار تحت أقدام حكامها لإرضاء سياسات دول كبرى وطموحات جماعة إرهابية إحدى أدوات زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط لعقود طويلة. المبادرة المصرية لإعلان عقد عربي للقضاء على غول الإرهاب ووحش الأمية حتى عام 2024 والتي أعلن عنها الرئيس عدلي منصور أمام قمة الكويت تبرهن على صلابة الموقف المصري في مواجهة مشكلات باتت تهدد الأمن القومي العربي بكل ما تعنيه الكلمة، وتؤكد المبادرة أيضا أن عودة السياسة المصرية إلى معسكر الاعتدال بعد 30 يونيو تنسجم مع مواقف وتاريخ بلد عريق لم يكن مقبولا أن ينجر إلى صراعات طائفية أو مذهبية أو استقطاب لمصلحة دول إقليمية. القمة العربية.. أكدت أيضا بأن دول الخليج العربي لديها اقتناع اليوم أن الأمن القومي المصري بوضوح غير مسبوق لا ينفصل عن أمنها القومي، وأن خيارها دون مصادرة على حق المصريين في الاختيار هو مساندة قرار عبدالفتاح السيسي بالترشح للرئاسة في مواجهة مخططات أوسع للفوضى منها مشروع الشرق الأوسط الكبير، وعبرت دول الخليج في أروقة القمة عن دعم غير محدود لمصر وشعبها في الفترة المقبلة، وليس سراً أو مزحة أن هناك حوارات جادة حول دعوة مصر في مرحلة ما لعضوية مجلس التعاون الخليجي انطلاقا من الرؤية التي تقوم على انصهار مكونات الأمن القومي لدول الخليج ومصر في بوتقة واحدة. أفضل ما خرجت به القمة العربية هي المكاشفة بين القادة بأن العالم العربي يحتاج بشكل ملح إلى أطر سياسية رشيدة وأن ما خرجت من اجله الشعوب في بعض الدول على مدى الأعوام الثلاثة الماضية انطلق من أسباب اقتصادية واجتماعية، فالحلول يتعين أن تكون في أطر الحكم الرشيد وليس بوسائل القتل والفوضى والعنف وبث الكراهية وهي المبادئ التي حكمت أفعال جماعات التطرف وداعميها على مدى أكثر من عامين وخلفت دمارا وخرابا وتهدد بتقويض دول محورية مثلما هو الحال في سوريا اليوم. ولعلنا اليوم نتذكر مواقف حكومات بعينها دفعتها الولاياتالمتحدة لمساندة قوى المعارضة ومدها بالسلاح وإدخال عناصر متطرفة إلى الأراضي السورية وعدم قبول أي بادرة من النظام السوري للتوافق الوطني وحقناً للدماء وبشكل مريب تصمت تلك الحكومات اليوم عن جرائم ضد الإنسانية ترتكبها المجموعات المدعومة من أمريكا وقطر وتركيا، وتتجاهل التحالفات المريبة لجماعات حقوقية إقليمية ودولية تلك الجرائم، وهو ما يزيد من تمزق سوريا الشقيقة واستمرار معاناة الملايين من شعبها. كما يصب تأكيد القمة العربية على تأييد حكومة الرئيس محمود عباس في صالح بناء إجماع في قضايا مصيرية سعت جماعة الإخوان ومناصروها في العام الماضي إلى تقويضها من خلال مساندة حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة في مواجهة السلطة الشرعية الممثلة للشعب الفلسطيني والتي حصلت بعد معركة دبلوماسية على اعتراف دولي مهم بوضع الدولة غير العضوة في الأممالمتحدة، وبدلا من أن يناصر "تجار القضية" من المتلاعبين بالدين وقيمه السمحة السلطة الشرعية راحوا يدبرون لكيفية القضاء على القضية برمتها من خلال فصيل ينشر الإرهاب ويهدد الأمن القومي المصري بشكل صريح وفج. المبادرة المصرية وتأييد قوى الاعتدال في الخليج المتمثلة في مواقف صريحة من السعودية والإمارات والكويت والبحرين لوضع المتآمرين في مربع ضيق هي طوق نجاة لسائر المنطقة للخروج من دوامة العنف والتطرف والتدخل الخارجي البغيض وعمالة البعض في الداخل لمؤامرات لا تريد الخير لشعوبنا. وفي مواجهة تلك التشابكات المريبة في المنطقة العربية تعمل نفايات وبقايا نظامين سابقين في مصر على محاولة ابتزاز نظام في طور التشكل وتدعم تلك البقايا منظومة من الفاسدين وأخرى من جماعات الإرهاب تركز على اتهام النظام الجديد بأنه عودة للفاشية وهي لعبة مكشوفة لن تنطلي على غالبية المصريين التي ستخرج في اختيار حر لانتخاب رئيس جديد، يتبنى حلم الأجيال الشابة في إطار من المصارحة التامة والصحية.. فهي معركة المستقبل التي تتشكل في ظل سباق انتخابي يرقبه العالم العربي والمجتمع الدولي وينتظره المصريون لإعادة بناء المجتمع على أسس قوية تتلافى عثرات عقود من الفشل وتضع نهاية لحلقات العنف والإرهاب التي يتحلى الشعب بالصبر حيالها وينتظر دولة قوية وحازمة تعيد للوطن الطمأنينة والسكينة وقيادة واعية بالتحديات المتراكمة.. فلم نعد نحتمل رفاهية الإخفاق من جديد! نقلا عن جريدة الأهرام