كل جينات التناقض اجتمعت في المصريين سلوكا وافكارا وحياة.. نيل يجري مئات الكيلو مترات في قلب الصحراء.. بحار تحيط هذه الرقعة الفريدة من الكون على بحرين وقارتين.. وامتداد تاريخي في عمق الزمن لم يشهده وطن آخر.. وشارع يمتلئ بالصخب والفوضى امام ثورتين حاشدتين واطفال صغار يتساقطون امام اشباح الكراهية والانقسامات وخرائب فكرية لا احد يعرف كيف تشكلت وقدمت لنا نماذج كريهة في الفكر والسلوك والأخلاق.. تناقضات كثيرة تعيشها مصر الآن مطاردات بين الشرطة والألتراس ثم انتصار كبير للنادي الأهلي اعرق اندية مصر.. وانتصار آخر للزمالك حلم به منذ سنوات وبعد هذا كله طيور الغناء العربي تصدح في دار الأوبرا ووفود اجنبية تهبط في ارض الكنانة تفتح آفاقا للتعاون الخلاق.. هذه هي مصر بكل تناقضاتها وزخمها واختلاف الرؤى فيها كانت دائما تشبه الحديقة الضخمة التي جمعت الأشجار والأزهار والطيور من كل نوع وكثيرا ما عبثت في حدائقها الثعابين والخفافيش ولكنها لم تتنكر لدورها في يوم من الأيام وتنسى انها واحة للجمال. وسط هذه التناقضات وقعت عيني على بعض الحقائق اتصور انها تمثل ظواهر خطيرة ومخيفة امام اهتمامات اخرى تشغل افكارنا وتسرق الزمن من بين ايدينا.. توقفت عند ثلاث قضايا يبدو انها بعيدة عن فكر واهتمامات الحكومة والشعب معا رغم انها تبدد طاقات شبابنا وتستبيح اعمارهم.. لن اتحدث اليوم عن غياب الانتماء وتحية العلم والنشيد الوطني ومناهج التاريخ التي اهملت كل هذه الأشياء ولكن سوف اتحدث عن ثلاث ظواهر سلبية اصبحت الآن تفرض نفسها على كل صاحب عقل او قرار.. اننا نراها شاخصة امامنا ورغم هذا ننكرها. من يصدق ان تجارة السلاح في مصر الأن تجاوزت عشرة مليارات جنيه سنويا. من يصدق ان آخر الأرقام تؤكد ان المصريين ينفقون 22 مليار جنيه على المخدرات. من يصدق ان الزيادة في استهلاك السجائر وصلت الى 700% في السنوات الأخيرة رغم ارتفاع اسعارها وان اعمار المدخنين في مصر وصلت الى الأطفال في سن 11 سنة وان ميزانية التدخين والمخدرات تأكل نصف ميزانية البيت المصري. لقد شغلتنا كثيرا فوضى الشارع المصري في المظاهرات والصراعات والانقسامات والمعارك واختلطت امامنا كل الأوراق ما بين السياسة والرياضة والتكفير والتدين، ونسينا ان هناك قضايا أخطر تزداد حدتها مع الفوضى وترتفع درجة خطورتها مع التسيب والإهمال.. قفزت مشكلة السلاح الى قائمة الظواهر الخطيرة بعد ثورة يناير حيث تدفقت ملايين القطع بكل الوانها من ليبيا غربا والسودان جنوبا ولا احد يستطيع ان يحدد حجم هذه الكميات وان كانت الأرقام مخيفة.. الخطير فيها انها شملت اسلحة جيوش نظامية فكان منها المدافع والصواريخ والقنابل ولم تعد قضية السلاح في مصر مسدسا او بندقية صيد لقد وجدنا مع الإرهابيين في سيناء منصات لإطلاق الصواريخ ومدافع مضادة للطائرات والدبابات وقنابل من كل نوع.. لقد تدفقت على مصر ترسانة الأسلحة التي جمعها نظام القذافي في عشرات السنين حيث يوجد في ليبيا الآن 20 مليون قطعة سلاح بخلاف 10 ملايين تم تهريبها الى مصر واضيفت لها اسلحة اخرى من السودان واليمن ودول افريقيا التي شهدت حروبا اهلية.. وفي سيناء اجتمع الإرهاب مع السلاح مع التدين الكاذب مع الهاربين من السجون الذين افرج عنهم حكم الإخوان ليخوض الجيش المصري معركة رهيبة لم تكن يوما في حسابات القرار المصري.. وتحول السلاح الى قوة ارهابية واصبحت تجارة السلاح من اهم مصادر الثراء للمغامرين واللصوص والتنظيمات الإرهابية.. ان السلاح لم تتوقف خطورته على ما يجري مع الإرهاب في سيناء ولكنه اصبح مصدر دمار في عدد كبير من المحافظات امام الصراعات القبلية وجرائم الثأر وانقسام الشارع المصري طوال حكم الإخوان. في ثورة يناير هرب 23 الف سجين وقام بعضهم بالإستيلاء على مخازن السلاح في اقسام الشرطة ثم قامت حكومة الإخوان بالإفراج عن مئات الإرهابيين الذين اتجهوا الى سيناء وجمعوا السلاح وتحولوا جميعا الى قوات وميليشيات تحارب الدولة.. على الجانب الآخر كانت تجارة المخدرات قد وجدت المناخ المناسب في حالة الفوضى والإرتباك التي تعيشها مصر منذ ثورة يناير وهنا اتسع حجم هذه التجارة امام زيادة اعداد المدمنين خاصة بين صفوف الشباب وخرجت ارقام تؤكد ان المصريين ينفقون سنويا 22 مليار جنيه على المخدرات والشئ المؤكد ان المخدرات كانت هي الوجه الآخر لتجارة السلاح حيث يجتمع الاثنان عادة في مناطق واحدة وهنا نعود الى سيناء حيث تجري عمليات التهريب والزراعة ومعهما تجارة السلاح.. ان اخطر ما في هذه الظاهرة ان كليهما يحمي الآخر لأن المخدرات يمكن ان تمول النشاط الإرهابي والسلاح يمكن ان يحمي الاثنين معا المخدرات والإرهاب وكلنا يعلم ان افغانستان تحولت مع الإرهاب والاحتلال الأمريكي الى اكبر مزرعة للأفيون في العالم واصبحت زراعة المخدرات من اهم مصادر الدخل فيها. تأتي السجائر في ختام هذه الثلاثية التي زادت خطورتها في الأعوام الأخيرة وهي تحتاج الى دراسات مستفيضة، ولا ادري اين مراكز البحوث الاجتماعية والدراسات التي تتناول هذه المخاطر.. ان الأطفال في سن العاشرة الآن يدخنون وقد دخلت المرأة المصرية هذا المحظور واصبح التدخين يمثل ازمة حقيقية خاصة مع ادمان الشيشة لدى الكثير من الفتيات.. ان 20% من المصريين الآن يدخنون ويتجاوز الإنفاق الشهري للشخص المدخن 200 جنيه وهناك تقديرات تؤكد ان ميزانية التدخين في مصر تتجاوز 20 مليار جنيه سنويا. ولنا ان نتخيل الآثار السلبية صحيا لإدمان السجائر والمخدرات وملايين الشباب الذين يتعرضون لأزمات صحية بسبب ذلك، وقبل هذا كله فإن الدولة تنفق مئات الملايين من الجنيهات لعلاج هؤلاء.. ان الآثار لا تقتصر فقط على المال والصحة والتلوث ولكنها تنتقل الى الإنتاج وقدرات المواطن المصري التي تستباح يوميا امام السجائر والمخدرات. في تقديري ان مثل هذه القضايا هي الأولى والأحق ان تطرح الآن خاصة ان الكثير من التقارير يؤكد زيادة حدة هذه الأزمات امام فوضى الشارع وانفلات الأمن وغياب الاستقرار والحالة النفسية المتقلبة التي يواجهها المصريون امام التغيرات السياسية الحادة. ان الأولى بالحكومة ان تتابع مثل هذه القضايا وان تبحث لها عن حلول والحل هنا ليس فقط مسئولية اجهزة الأمن ولكن التوعية والإعلام والأسرة ومراكز البحوث الاجتماعية يجب ان يقوم هؤلاء جميعا بدورهم في مواجهة قضايا مصر الحقيقية.. كانت هناك حملات ارشادية للتوعية في الإعلام والشوارع وقد توقفت الآن تماما ابتداء باللوحات في الشوارع وانتهاء بالبرامج التلفزيونية.. ان اطفال الشوارع بأمراضهم والأوبئة التي تحاصرهم هم اول ضحايا السجائر والمخدرات.. كما ان الأمن والاستقرار في الشارع المصري اول ضحايا تجارة وتهريب السلاح ولكن ذلك كله يمثل عبئا رهيبا على الاقتصاد المصري وميزانية الدولة، ان ملايين المخدرات يمكن ان تقيم عشرات المستشفيات التي تعالج المرضى وملايين السجائر يمكن ان تنقذ شبابنا واطفالنا من عشرات الأمراض كما ان السلاح الذي ينتشر في كل مكان يهدد حياة المصريين واستقرارهم. ان الحكومة تبحث عن مصادر لتمويل الميزانية وسداد العجز فيها وتوفير حياة كريمة للمواطنين ان اختصار هذه البنود الثلاثة السلاح والسجائر والمخدرات يوفر للشعب آلاف الملايين من الجنيهات والأمر يتطلب ان تغير الحكومة اجندة اولوياتها لأن خرطوشة السجائر توفر انبوبة البوتاجاز والبلطجية الذين يهددون الأمن كل يوم هم وقود المخدرات وتجارة السلاح التي نواجه بها الإرهاب في سيناء هي التي جعلتنا نعيش هذه المواجهة الصعبة خاصة ان الارتباط وثيق جدا بين ثلاثية السلاح والمخدرات والإرهاب وعلينا ان نواجهها مجتمعة امنيا واجتماعيا وفكريا. على الدولة ان تتصدى بعنف لتجارة السلاح حتى لو تطلب الأمر اجراءات استثنائية وان نعطي لقوات الأمن كامل الصلاحيات لمواجهة هذا الخطر الرهيب.. على جانب آخر فإن المخدرات تمثل تهديدا لأجيالنا القادمة وهي بكل تأكيد من اسباب اختلال الأمن في الشارع المصري، وعلى المراكز البحثية الاجتماعية ان تناقش ذلك في صفوف البلطجية واطفال الشوارع ولدى د. يحيي الرخاوي ود. احمد عكاشة دراسات نفسية كثيرة يمكن الاستفادة منها في علاج هذه الظواهر. قلت ان مصر هي وطن التناقضات حيث تجد الحسم والجدية والفوضى والانفلات وتجد اطفال الشوارع واطفال الأوبرا والفريق القومي مهزوما في غانا وفريق الأهلي مكتسحا في القاهرة والزمالك يهلل من بعيد رغم ان اللاعبين لم يتغيروا والفريق هو نفس الفريق ولكن النتيجة مختلفة تماما.. هناك قضايا تشغل الحكومة وليس لها محل من الإعراب وقضايا اخرى تدمر اجيالا لا يتوقف عندها احد ونراها تكبر حتى تتحول الى كارثة. ان المخدرات وتجارة السلاح والارتفاع الرهيب في اعداد المدخنين، كل هذه الظواهر تعكس حالة الانفلات والفوضى في الشارع المصري وتؤكد ان الاهتمام بالقضايا الفرعية جعلنا نهمل القضايا الأهم والمطلوب من اجهزة البحث والرصد والمتابعة ان تكشف هذه الحقائق حتى لا يضيع الوقت ونخسر اجيالا هي صاحبة الحلم والمستقبل.. هناك قضايا تعالج الخراب الفكري والنفسي وقضايا اخرى تكشف الظواهر المدمرة للإنسان جسدا وروحا وعملا وانتاجا.. خرائب الفكر تحتاج الكثير من الوقت ولكن جرائم التشوهات السلوكية تحتاج الى سلطة حاسمة وقرار صارم. .. ويبقى الشعر لو أننا.. لم نفترق لبقيت نجما في سمائك ساريا وتركت عمري في لهيبك يحترق لو أنني سافرت في قمم السحاب وعدت نهرا في ربوعك ينطلق لكنها الأحلام تنثرنا سرابا في المدي وتظل سرا.. في الجوانح يختنق لو أننا.. لم نفترق كانت خطانا في ذهول تبتعد وتشدنا أشواقنا فنعود نمسك بالطريق المرتعد تلقي بنا اللحظات في صخب الزحام كأننا جسد تناثر في جسد جسدان في جسد نسير.. وحولنا كانت وجوه الناس تجري كالرياح فلا نري منهم أحد مازلت أذكر عندما جاء الرحيل.. وصاح في عيني الأرق وتعثرت أنفاسنا بين الضلوع وعاد يشطرنا القلق ورأيت عمري في يديك رياح صيف عابث ورماد أحلام.. وشيئا من ورق هذا أنا عمري ورق حلمي ورق طفل صغير في جحيم الموج حاصره الغرق ضوء طريد في عيون الأفق يطويه الشفق نجم أضاء الكون يوما.. واحترق لا تسألي العين الحزينة كيف أدمتها المقل.. لا تسألي النجم البعيد بأي سر قد أفل مهما تواري الحلم في عيني وأرقني الأجل مازلت المح في رماد العمر شيئا من أمل فغدا ستنبت في جبين الأفق نجمات جديده وغدا ستورق في ليالي الحزن أيام سعيدة وغدا أراك علي المدي شمسا تضيء ظلام أيامي وإن كانت بعيده لو أننا لم نفترق حملتك في ضجر الشوارع فرحتي.. والخوف يلقيني علي الطرقات تتمايل الأحلام بين عيوننا وتغيب في صمت اللقا نبضاتي والليل سكير يعانق كأسه ويطوف منتشيا علي الحانات والضوء يسكب في العيون بريقه ويهيم في خجل علي الشرفات.. كنا نصلي في الطريق وحولنا يتندر الكهان بالضحكات كنا نعانق في الظلام دموعنا والدرب منفطر من العبرات وتوقف الزمن المسافر في دمي وتعثرت في لوعة خطواتي والوقت يرتع والدقائق تختفي فنطارد اللحظات.. باللحظات.. ما كنت أعرف والرحيل يشدنا أني أودع مهجتي وحياتي.. ما كان خوفي من وداع قد مضي بل كان خوفي من فراق آتي لم يبق شيء منذ كان وداعنا غير الجراح تئن في كلماتي لو أننا لم نفترق لبقيت في زمن الخطيئة توبتي وجعلت وجهك قبلتي.. وصلاتي قصيدة لو أننا لم نفترق سنة 1998 نقلا عن جريدة الأهرام