قاد انشغال الناس بشؤون السياسة وأخبارها البعض إلى أن يعيد صياغة الاصطلاح المعروف ب"الرأي العام" أو يسلخ عنه جزءاً ليس بالقليل ليطلق عليه اسم "الشارع السياسي"، والذي ذاع صيته في الإعلام، وظلت تردده الألسنة في مصر، من دون بلورة اصطلاح مستقل له، من واقع التجربة المصرية، على وجه الخصوص، والتي تستعيد دوماً مقولة شهيرة صكها جمال عبدالناصر وهي "الشعب المعلم" تخبو قليلاً ثم لا تلبث أن تعود قوية كاسحة مع انتفاضات المصريين وثوراتهم، مثلما جرى في "انتفاضة الخبز" التي وقعت في 18 و19 يناير 1977، وفي ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013. ويسعى هذا المقال إلى رسم ملامح التجربة الثورية المصرية من 25 يناير وإلى الآن في سطور قليلة، تحتاج إلى تفصيل فيما بعد، حتى نعرف حقيقة ما جرى في ضوء ما فعله المصريون وليس وفق النماذج الثورية والنظريات السياسية والاجتماعية الغربية. ففي فترة "التخمر الثوري" وما تبعها من انطلاق ثورتين في ثلاثين شهراً، رسم الشارع المصري دورة كاملة لحضوره السياسي وتأثيره الكبير على مجريات الأمور، كطرف أول وأصيل في المعادلة، وصنع ثورتين شعبيتين، وسارت هذه الدورة على النحو التالي: 1 توقظ الطليعة الثورية الشارع، وتعمق درجة وعيه، من دون أن يكون لها سلطان عليه، لأنها افتقدت أيام حكم مبارك الشبكات الاجتماعية والمشروعية القانونية والقدرات المالية التي تمكنها من التواصل المباشر والواسع مع الجماهير. 2 لا تستطيع الطليعة الثورية بمفردها أن تحدث التغيير العميق والتحول الاستراتيجي في المشهد أو الموقف أو الحالة. والمثال الناصع لذلك حركة "كفاية" التي على رغم شجاعتها ومغامرتها وانضمام عدد من الرموز الوطنية إليها من مختلف التيارات السياسية، ظلت على مدار أكثر من ست سنوات مجرد جماعة احتجاجية ذات مواصفات خاصة، ولم تتمكن بمفردها من تحقيق هدفها في "منع التمديد لمبارك والتوريث لنجله"، بل شهدت قبيل انطلاق ثورة يناير تصدعات وتشققات وتراخت إمكانياتها إلى درجة أن كثيرين تحدثوا عن مرضها أو موتها وانقضائها تماماً، لاسيما بعد أن ظهرت "الجمعية الوطنية للتغيير" التي تسلمت الراية، وانفتحت أكثر على الجمهور من خلال حملة التوقيعات على مطالب التغيير السبعة، والتي بلغت مليون توقيع قبل شهور قليلة من ثورة يناير، والتي تجددت قبيل ثورة يونيو من خلال حملة "تمرد" التي جمعت توقيعات أكثر من 22 مليون شخص لسحب الثقة من حكم "الإخوان". 3 حين تنضم القاعدة الشعبية إلى ما تراه الطليعة الثورية أو تقدره يحدث هذا التحول، وتضطر السلطة إلى الاستجابة للمطالب مثلما حدث في انتفاضة 18 و19 يناير 1977 أو تغادر الحكم نهائياً إن أصر الشعب على هذا. وقد حدث في المرتين بتدخل "القوة الصلبة" وهي المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، من أجل إجبار السلطة على أن تنزل عند إرادة الشعب. 4 حين تنحسر القاعدة الشعبية عن الطليعة الثورية تقف الأخيرة عاجزة عن تحقيق مطالبها، وتعود السلطة إلى التجبر من جديد، أو الالتفاف حول المطالب التي كانت الجماهير قد نزلت للشارع من أجلها، بدعوى أن الثورة كانت مجرد انتفاضة أو تعرض كيان الدولة نفسه للخطر. 5 تبدأ هذه الطليعة في تحفيز وإيقاظ وعي الجماهير من جديدة مطالبة أو مناشدة إياها أن تنزل إلى الساحة من جديد بغية التغيير، وتسعى إلى تفنيد حجج وذرائع السلطة الجديدة. ولم يكن الجمهور "كتلة متجانسة" في هذه التجربة، بل امتزج فيه خليط بشري، أغلبه سائل، حيث إن أغلب المحتجين لم يكونوا منتظمين في أحزاب سياسية أو حركات اجتماعية أو جماعات دينية، وهم "الزاحفون" الذين يشكلون نموذجاً للحركات الاجتماعية، إلى جانب "متحدي السلطة"، ويمثلهم الأولتراس، إلى جانب "البلطجية" ومعتادي الإجرام في فترات ما بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو. وهذا الخليط، وفق التجربة المصرية، يمر بثلاث مراحل على النحو التالي: أ يتوحد الشارع السياسي المصري حول هدف قصير المدى، بوسعه أن يشحذ الهمم، ويشحن الطاقات، ويأخذ بالأفئدة والألباب، لمدة معينة، فيندمج الناس، على أشتاتهم، في كتلة واحدة، فتتحقق معادلة "الكل في واحد" ويؤمن الجميع بمبدأ "قوتنا في وحدتنا". ب حين يتحقق الهدف قصير الأمد، وكان في ثورة يناير إسقاط حكم مبارك وفي ثورة يونيو إسقاط حكم "الإخوان"، يحدث الخلاف حول ترتيب المرحلة المقبلة، أو حول الأهداف الأبعد، وفي مطلعها كيفية بناء نظام سياسي جديد، ويتوزع الشارع بين أغلبية راغبة في تحقيق الاستقرار، الذي يكون أحياناً المصطلح السحري للثورة المضادة، وبين أولئك الراغبين في استكمال الثورة، منطلقين من أنها عملية تغيير جذري، لا ينبغي أن تكتفي برحيل الحاكم أو إسقاط نظامه، وإنما ببناء نظام آخر يحقق كل مطالب الثوار، كاملة غير منقوصة. وبين الفريقين هناك من يؤمن بأن هذه المعركة لا يمكن الفوز فيها بالضربة القاضية، لأن الثورتين المصريتين كانتا ثورتين شعبيتين، بلا قيادة واضحة ومحددة ومتفق عليها، ولذا لم يصل الثوار إلى الحكم مباشرة ويطبقوا ما طلبه الثوار، الذين كانوا أيضاً بلا استراتيجية متكاملة ومعلنة، يتم فرضها بقوة على من حاز الحكم. ج يؤدي هذا الخلاف، وهذا التوزع على الأهداف والوسائل، إلى تفكك الكتلة البشرية من جديد، وعودة كل طرف منها إلى أرضيته الأولى، ينطلق منها وينافح عنها، وهو في النهاية دفاع عن خليط من المصالح والمنافع والأيديولوجيات والمبادئ. د لا يعني هذا أن الكل يعود إلى النقطة التي بدأ منها قبل الثورة، فالفعل الثوري يكون قد أدى دوره في هز الكثير من الاعتقادات الجامدة وأعاد صياغة بعض المصالح، وأعاد تشكيل بعض التحالفات، الأمر الذي يعني إحداث قدر من التغيير إلى الأمام، لا يمكن لأي سلطة حصيفة أو رشيدة أن تنكره وإلا أعادت الثورة إنتاج دورة جديدة، أو موجة أخرى. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية