لا بد ان تكون لدينا الشجاعة بأن نعترف أن تجربتنا الأولى مع الديمقراطية قد فشلت ولا يكفي ان نعترف بهذا الفشل ولكن الحكمة تقتضي ان نعرف اسباب هذا الفشل.. نحن الآن امام خريطة جديدة للطريق وأمام رئيس مؤقت في ظل غياب كامل للمؤسسات الدستورية ابتداء بالبرلمان وانتهاء بالدستور مرورا بمجلس الشورى وقد كان خارج السياق تماما.. وهذا يعني اننا نبدأ من جديد على اساس ان ما حدث يوم 30 يونيه كان ثورة جديدة وان اعتبره البعض امتدادا او تابعا لثورة يناير وان كان هناك من يرفض تصنيفه في دائرة الثورات.. إلا ان المهم ان هذا اليوم قد وضع ثوابت جديدة غيرت من خريطة الواقع السياسي المصري وكان اخطر ما فيها انها كانت شهادة وفاة لأولى تجارب الحكم الإسلامي في العالم العربي.. وإذا كان المطلوب ان نسلم بما حدث فإن الأمانة تقتضي ان يعرف كل طرف اخطاءه وخطاياه حتى لا ندور مرة اخرى في حلقة مفرغة من التجارب التي لن تصل بنا الى شيء. اول اخطاء تجربتنا مع الديمقراطية ان التيارات الإسلامية اعتبرت ان ثورة يناير كانت ثورة إسلامية ولم تكن ثورة مصرية فخلعت عنها ثوب الوطنية لترتدي ثوبا دينيا ولهذا تم بناء كل شيء على هذه المقدمة الخاطئة.. لقد شاركت جموع الشعب المصري في ثورة يناير ولم تأخذ الثورة لونا او فكرا او اتجاها غير انها ثورة وطنية حملت كل مشاعر الرفض والغضب لتغيير نظام استباح ثوابت الوطن زمنا طويلا.. لم يفرق المصريون وهم يحتشدون في ميدان التحرير بين مسلم ومسيحي او بين ريفي وحضري أو بين شيخ وقس.. خرج المصريون في هذا اليوم تحت علم واحد وغاية واحدة.. كان ينبغي ان تكمل الثورة طريقها من هذا المنطلق الوطني الخالص إلا ان التيارات الإسلامية المنظمة جمعت حشودها وفرضت إرادتها على القوى الأخرى واستطاعت أن تأخذ الثورة كلها في إتجاه واحد دون مراعاة لجميع القوى التي شاركت فيها.. لقد تجسد ذلك كله في نتائج الاستفتاءات والعلامات الخضراء والسوداء والمؤمن والكافر والشريعة وغير الشريعة ثم اتضح بصورة اكبر في انتخابات مجلس الشعب ثم الشورى ثم الرئاسة حتى وجد المصريون ثورتهم قابعة في احضان التيار الإسلامي الذي تجرأ على الحقيقة واعلنها صراحة اننا امام ثورة إسلامية ومشروع جديد للخلافة ينطلق من ارض الكنانة.. لم يحاول التيار الإسلامي ان يوازن مواقفه وهو يعيد تشكيل الدولة المصرية بين اهدافه واطماعه وحقوق بقية المصريين وهنا كانت بداية تقسيم الشارع المصري التي وصلت الآن الى اسوأ حالاتها في هذه الحشود المتنافرة التي ترفض بعضها بعضا وللأمانة فإن قيادة الدولة المعزولة شجعت هذا التوجه نحو الانقسامات والإستقطاب والإقصاء ولم تدرك امام قصور التجربة وغياب الرؤى خطورة ذلك كله على امن الوطن واستقراره.. كان الخطأ الثاني ان البعض منا تصور ان الديمقراطية هي فقط صندوق الانتخابات والحشود المليونية وان على الشعب ان يخضع للحكم الجديد الذي استخدم الدين الى ابعد مدى وراهن على حشوده الضخمة وان الشرعية تعني اصوات الناخبين.. تجاهل هذا الحكم مطالب شعب يعاني ظروفا اقتصادية وامنية وإنسانية غاية في السوء وحين حاول هذا النظام ان يلقي المسئولية على نظام سبق كان الرد: وماذا فعلتم لإصلاح ما افسده الآخرون ؟.. وكما انقسمت جموع الشعب امام الدين انقسمت مرة اخرى امام المشاكل والأزمات, فقد توقفت السياحة ومعها اكثر من اربعة ملايين مواطن تركوا اعمالهم.. وتوقفت انشطة كثيرة امام الفوضى وعدم الاستقرار ولجأت الحكومات المتعاقبة إلى مسكنات العهد الماضي في القروض والمعونات ووصل عدد المصانع التي توقفت عن العمل الى اكثر من 4000 وحدة انتاجية وهنا أطل الجانب الديني مرة اخرى على سياسات مصر الخارجية وتجسد في هذه الفجوة العميقة بين النظام الحاكم ودول الخليج العربي مع اكتشاف خلايا دينية تعمل ضد النظم في هذه الدول.. على الجانب الآخر فإن هناك جوانب كثيرة غامضة في العلاقة بين الإدارة الأمريكية والقوى الإسلامية بعد ثورة يناير وهل كانت أمريكا صادقة بالفعل في نياتها ومواقفها مع هذه التيارات ام انها دفعت بها دفعا الى مغامرة غير محسوبة النتائج في حكم مصر.. في تقديري ان أمريكا لم تصدق يوما مع الإسلام السياسي باستثناء لحظات قصيرة جدا في مقاومة النفوذ السوفيتي في افغانستان أو تأكيد الجانب الإنساني امام العالم في البوسنة.. لقد شجعت الإدارة الأمريكية وصول الإسلاميين الى السلطة في مصر بدافع إغراءات الحشود ومغامرة التجربة ويبدو انها كانت تراهن كثيرا على الفشل اكثر من النجاح ولهذا فإن أمريكا لم ترض عن تجربة الإسلاميين في حكم مصر رغم كل التنازلات التي قدموها أو وعدوا بها. في هذا السياق لا يمكن لنا ان نتجاهل ان الإسلاميين حين وصلوا الى السلطة راودتهم احلام كثيرة خارج حدود الوطن تمثلت في حلم الخلافة والتنظيمات الدولية الإسلامية وبرامجها وخططها والتزاماتها وقد انعكس ذلك على اسلوب الأداء ومدى الالتزام بقضايا الوطن وهموم الناس ومشاكلهم وكانت الازدواجية في الولاء وتعددية الإنتماء حائلا دون الوقوف على مشاعر المواطن المصري الحقيقية ومدى المشاركة بين هذه التيارات وبين جموع المواطنين.. كانت إزدواجية الولاء من اهم الأسباب التي افقدت تجربة الإسلاميين في الحكم التواصل مع الوطنية المصرية وهي من اهم مقومات وثوابت الإنسان المصري في كل العصور. كان الخطأ الثالث من نصيب الوجه الآخر من النخبة وهو ما اطلقوا عليه النخبة المدنية رغم ان مصر لم تعرف هذه التقسيمات وكان هناك تداخل عميق بين مكونات الإنسان المصري في تدينه وانفتاحه على الآخر وكانت لدينا نماذج دينية قام فكرها على اسس ليبرالية وكانت لدينا نماذج ليبرالية لم تتخل عن مقوماتها الدينية ونرى ذلك واضحا عند كتابنا الكبار في إسلاميات العقاد وكتب السيرة عند طه حسين ورؤى لطفي السيد وهيكل باشا وعبدالرازق ومحمد عبده, حتى ان سيد قطب نفسه بدأ حياته ناقدا وشاعرا وهو اول من قدم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.. كان من الصعب ان تجد مثقفا او مبدعا كبيرا خرج على ثوابت دينه او تنكر لها بل ان هناك جيلا من المثقفين المصريين جمع وسطية الدين وانطلاق الفكر مثل عبد الرحمن الشرقاوي وخالد محمد خالد وبنت الشاطئ وامين الخولي. كان خطأ جسيما تقسيم النخبة المصرية ونحن نعيش زمان ثورة اقتلعت نظاما كاملا.. كان ينبغي ان نحافظ على تماسك ووحدة الكيان المصري حتى نضع اقدامنا على اول الطريق ولكن الانقسامات الفكرية اطاحت بمنظومة التجانس الفكري التي صنعتها مصر عبر سنوات طويلة.. لم يصل الصراع الفكري في مصر في يوم من الأيام الى هذه الدرجة من الحدة والمواجهة والرفض ومحاولات التصفية والإقصاء.. لم يكن هذا المنهج في المواقف يتناسب مع ثورة قادها الشباب يوم 25 يناير إلا ان امراضنا الفكرية طفحت على وجه الحياة مرة واحدة وشجع على ذلك مناخ سياسي منفلت وقوى سياسية لم تستوعب خطورة اللحظة وجسامة المسئولية ومضى كل تيار في طريقه يحشد المليونيات من ابناء الشعب المتعب الفقير وامام اشباح كثيرة شجعت هذه المواجهات كانت ثلاثية الأمية والفقر والثقافة ابرز عوامل الانقسام والتشتت في الشارع المصري.. لا نستطيع ان ننكر او نتجاهل دور الإعلام في إشعال الفتن في حياة المصريين وبقدر ما كان الإعلام اداة وعي ورؤي بقدر ما كان معول هدم ودمار.. كانت منصات الإعلام المصري اخطر الوسائل التي دمرت ثوابت كثيرة وفتحت الطريق امام إنسان يطالب بحريته ولكنها وهي تفتح الطريق دمرت قيما كثيرة واستباحت افكارا واشخاصا وتاريخا شيده الإعلام المصري بالمصداقية والترفع.. ان آخر ما بقي امامنا في تجربتنا الأولى مع الديمقراطية هو اطلال القوى السياسية التي تترنح الآن امام واقع مؤلم ومستقبل غامض ومجتمع وصل الى اخطر مراحل التفكك والإنقسام.. لا اعتقد ان المريض في هذه الحالة يمكن ان يجري عملية جراحية جديدة وعلى الجسد المتعب ان يتماسك اولا حتى نفكر في البدء في جراحة جديدة.. ان اخطر ما خلفته التجربة الأولى ثلاث نقاط اساسية يجب ان نتوقف عندها اولا: ان حالة الانقسام بين المواطنين المصريين وليس بين القوى السياسية هي اسوأ ما وصلنا اليه من نتائج التجربة الأولى.. لم تعد الانقسامات الآن بين ابناء النخبة من الإسلاميين او السلفيين او الإخوان او الليبراليين ولم تعد خلافات في الرأي والمواقف بين اطراف اللعبة السياسية ولكنها تسللت الى ابعد نقطة في مكونات هذا المجتمع واصبحت تهدد كيان الأسرة المصرية الآباء والأبناء والأخوة وللأسف الشديد ان الخلافات لا تستند لرأي أو فكر ولكنها اجتاحت اهم مقومات الشخصية المصرية: وهي الدين وتحول المجتمع الى طوائف واقليات وهذا المرض اخطر ظواهر انحطاط الفكر حتى وصل بنا الحال الى مؤمنين وكفار وللأسف الشديد ان هذه التقسيمات الدينية تأخذ شكلا سياسيا ابعد ما يكون عن الحقيقة.. ان انقسام مصر الآأن بين الإيمان والكفر ظاهرة لم يكن لها وجود في حياة المصريين. ثانيا: ان مصر لن تتخلى ابدا عن وجهها الحضاري وتركيبتها المتنوعة المتداخلة وان أي فريق يحاول تغيير هذه الثوابت سوف يدفع بالمجتمع كله إلى هاوية سحيقة.. ان ثورة يناير لم تكن إسلامية فقط.. ولكنها جمعت كل ابناء هذا المجتمع ومن يتصور انه قادر على فرض لون او فكر او وصاية على كل المصريين لا يفهم ابدا ابعاد هذا الوطن ومكوناته الحضارية والثقافية. ثالثا: قبل ان نفكر في تجربة جديدة مع الديمقراطية علينا ان نسعى لترسيخ الثوابت الثقافية التي تقوم عليها في الحوار والاعتراف بالآخر والتعددية ورفض سياسة الإقصاء لأننا لا نحتمل كشعب ووطن تجربة فاشلة اخرى ويكفينا ما حدث. ..ويبقى الشعر يقولون: سافر.. وجرب وحاول ففوق الرءوس.. تدور المعاول وفي الأفق غيم.. صراخ.. عويل وفي الأرض بركان سخط طويل وفوق الزهور يموت الجمال.. وتحت السفوح.. تئن الجبال ويخبو مع القهر عزم الرجال ومازلت تحمل سيفا عتيقا.. تصارع بالحلم.. جيش الضلال يقولون: سافر.. فمهما عشقت نهاية عشقك حزن ثقيل ستغدو عليها زمانا مشاعا فحلمك بالصبح وهم جميل فكل السواقي التي أطربتك تلاشي غناها وكل الأماني التي أرقتك.. نسيت ضياها ووجه الحياة القديم البريء تكسر منك.. مضي.. لن يجيء يقولون: سافر.. فمهما تمادي بك العمر فيها وحلقت بالناس بين الأمل ستصبح يوما نشيدا قديما ويطويك بالصمت كهف الأجل زمانك ولي وأصبحت ضيفا ولن ينجب الزيف.. إلا الدجل.. يقولون سافر.. ولا يعلمون بأني أموت... وهم يضحكون فمازلت أسمع عنك الحكايا وما أسوأ الموت بين الظنون ويخفيك عني ليل طويل أخبئ وجهك بين العيون وتعطين قلبك للعابثين ويشقي بصدك من يخلصون ويقصيك عني زمان لقيط ويهنأ بالوصل.. من يخدعون وأنثر عمري ذرات ضوء وأسكب دمي.. وهم يسكرون و أحمل عينيك في كل أرض و أغرس حلمي.. وهم يسرقون تساوت لديك دماء الشهيد وعطر الغواني وكأس المجون ثلاثون عاما وسبع عجاف يبيعون فيك.. ولا يخجلون فلا تتركي الفجر للسارقين فعار علي النيل ما يفعلون لأنك مهما تناءيت عني وهان علي القلب ما لا يهون و أصبحت فيك المغني القديم أطوف بلحني.. ولا يسمعون أموت عليك شهيدا بعشقي وإن كان عشقي بعض الجنون فكل البلاد التي أسكرتني أراها بقلبي.. تراتيل نيل وكل الجمال الذي زار عيني و أرق عمري.. ظلال النخيل وكل الأماني التي راودتني و أدمت مع اليأس قلبي العليل رأيتك فيها شبابا حزينا تسابيح شوق.. لعمر جميل يقولون سافر.. أموت عليك.. وقبل الرحيل سأكتب سطرا وحيدا بدمي أحبك أنت.. زمانا من الحلم.. والمستحيل "قصيدة انشودة المغنى القديم 1989" نقلا عن جريدة الأهرام