من حق أجيالنا العربية الجديدة التي لم تعايش حرب يونيو عام 1967 أن ننقل لها خبرات وكواليس جربناها وعشناها ونحن في طور الشباب. من أهم المقارنات التي ينبغي عقدها تلك المتعلقة بطرق معاملة الأسرى بين مصر وإسرائيل. لقد كنت شاهداً على المعاملة الإنسانية التي تلقاها الأسرى الإسرائيليون وكان معظمهم من الطيارين الذين أسقطت مضاداتنا الجوية طائراتهم وهم يقصفون المطارات العسكرية المصرية في ساعة مبكرة من صباح الخامس من يونيو. كنت أعمل معيداً بقسم اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس، وسارعت فور نشوب المعركة إلى تقديم طلب تطوع للمخابرات العسكرية المصرية، وتم تكليفي بالقيام بالحوار مع الأسرى. كان الأسير يأتي إلى غرفة الاستجواب غير مقيد اليدين وغير معصوب العينين ومعه الحراسة، لم ألاحظ أي معاملة خشنة من جانب العسكريين المصريين للأسير. كنت أبدأ بسؤاله عن اسمه فيقدم لي بطاقة هويته العسكرية، وبينما أراجع بياناته التي تشير إلى اسمه ورتبته ورقمه العسكري، كان يطلب مني في صوت مرتعش أن أنظر إلى ظهر البطاقة، وكان مكتوباً عليها عدة مواد من اتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة الأسرى. كنت أنظر إليه وأطمئنه إلى أننا لا ننوي إيذاءه بأي صورة. فيبدي اندهاشه وعندما أطلب منه تفسيراً لهذا الاندهاش يقول لي إن لديه صورة سلبية عن العرب باعتبارهم قساة يعاملون الأسرى معاملة غير إنسانية. كنت أسأله هل تعرض لك أحد بأذى منذ سقوط طائرتك؟ فيجيب بالنفي، وبالتالي كنت أؤكد له أنه سيبقى في أمان إلى أن يتم تبادل الأسرى. كنت أجري مع كل أسير حواراً حراً طلقاً يتشعب إلى القضايا المختلفة المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي وعادة كان يسألني هل أنت يهودي مصري؟ وأين تعلمت اللغة العبرية؟ وكنت صادقاً في إجابتي بأنني غير يهودي وإنني تعلمت على يد معلمين مصريين تعلموا على يد الحاخام اليهودي المصري شويكه. إن هذا يدل على الارتياح الذي كان يشعر به الأسير لدرجة قيامه بتوجيه الأسئلة إلى من يستجوبه. كنت أعتمد على منهج الإيهام بأن مسار المعركة منذ سقوط الأسير قد تحول وأن الجيشين الأردني والسوري يتوغلان داخل فلسطين، وأطلب منه أن يختار بين الإجابة عن أسئلتي المتعلقة بالموضوعات العسكرية أو أن يرفض طبقاً لإرادته الحرة. وعلى الجانب الآخر تكشَّفت بعد الحرب حقائق مروعة عن عمليات القتل الجماعي للأسرى المصريين الذين سقطوا في يد الجيش الإسرائيلي بأوامر من القادة والضباط. إن هذه الجرائم تكشف عن أخلاق منحطة وعقيدة عسكرية نازية تعتمد منهج إبادة المدنيين والأسرى العزل، وهو منهج طُبِّق في جميع الحروب بدءاً بحرب 1948 التي شهدت مذابح لسكان القرى والمدن الفلسطينية والتي كان أشهرها مذبحة قرية دير ياسين، والتي شاركت فيها فصائل الهاجاناه التابعة للوكالة اليهودية، والتي اندمجت في الجيش الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل، ومنظمة ارجون تسفائي لئومي التي كان يقودها مناحيم بيجن الذي أصبح بعد ذلك رئيساً للوزراء. لقد شهدت حرب 1956، وهي حرب العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، نفس الجرائم ضد الأسرى المصريين على يد الجيش الإسرائيلي. نحن إذن أمام منهجين في معاملة الأسرى، أحدهما يتسم بالشهامة والرحمة بالأسير الأعزل، والثاني إجرامي وحشي وسيظل هذا حكم التاريخ. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية