مجلة فورن بوليسى الامريكية ، ترى انه قد يبدو غريبا أن أكبر تحد لسلطة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان خلال أكثر من عشر سنوات في السلطة ، قد بدأ بتجمع صغير لانصار البيئة ، لكن هذا التجمع اتسع ليصبح مظاهرات عارمة ضمت الآلاف من الأتراك الذين خرجوا الى الشوارع في مختلف المدن بأنحاء تركيا.. لذا فمن الواضح أن الامر اكبر بكثير من مسالة تدمير الأشجار في جازى بارك على مقربة من ميدان تكسيم في اسطنبول . والحديقة التي لا تزيد مساحتها عن ست كتل مربعة و تريد الحكومة بناء مركز للتسوق على ارضها ليست المشكلة الفعلية وراء تنامي السخط الشعبي ، فما هى الا القشة التى قصمت ظهر البعير كما يقال .. فالاضطرابات والاحتجاجات التى اتسعت و هتف خلالها المتظاهرون ضد اردوغان والحكومة و طالبوه بالاستقالة من منصبه ، واستجابة الشرطة التركية وردها بالغاز المسيل للدموع والهراوات، هى قرائن على زيادة السخط ازاء سياسة اردوغان والطريقة التي يسعى بها حزب العدالة والتنمية (AKP) الحاكم ليخنق ببطء كل المعارضة على ان يبدو هذا ضمن حدود الديمقراطية. ووصفت فورين بوليسي تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بأنه حالة نموذجية للديمقراطية الجوفاء، مشيرة الى ان ضراوة الاحتجاجات واستجابة الشرطة التركية العنيفة ازاء المتظاهرين فى جازى بارك ، مما لا شك فيه كانت مفاجأة للكثيرين في واشنطن التى تعتبر تركيا، "نموذج ممتاز" أو "شريك نموذجى".. تركيا بالطبع اصبحت أكثر ديمقراطية مما كانت عليه قبل عقد من الزمان ، لكن هناك عمليات سياسية معقدة ومتناقضة في كثير من الأحيان تجري حاليا في تركيا ، وتحت حكم حزب العدالة والتنمية ومع شخصية أردوغان الكاريزمية، أصبح هناك أعداد غير مسبوقة من الأتراك تم تعبئتها سياسيا نتيجة ازدهار الاقتصاد التركي الذى تضاعف حجمه ثلاث مرات فى الفترة من 2002-2011، وهو ما جعل 87 في المئة من الاتراك يصوت لهما في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مقارنة مع 79 في المئة في انتخابات عام 2002 التي جلبت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. ولكن هذه التعبئة و الحشد الجماهيرى المؤيد لم يصاحبه تعديل و موائمة للسياسات التركية القائمة على ارض الواقع مما مهد الطريق لحزب العدالة والتنمية لتعزيز قبضته على السلطة وتحويل تركيا الى دولة الحزب الواحد.. والمفارقة هي أن حزب العدالة والتنمية فيما كان يشرع فى بناء نظام غير ليبرالي ، كانت واشنطن تصدر تركيا كنموذج لدول ما بعد الانتفاضة في العالم العربي. و ترى مجلة الفورين بوليسى ، انه بعد فترة وجيزة من وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة فى تركيا عام 2002، دارت مناظرات في الولاياتالمتحدة وأوروبا حول ما إذا كانت تركيا "فى طريقها للانفصال عن الغرب" وكان هذا نتيجة طبيعية للاسلاموفوبيا "كراهية الإسلام" التى سادت في عصر ما بعد احداث 11 سبتمبر ... و لكن الإسلاميون الإصلاحيون بذلوا كل ما في وسعهم لتبديد هذا الانطباع الذى ساد الغرب بعد انتخابهم، واكدوا ان تركيا لن تدير ظهرها لعقد طويل من التعاون والتكامل مع الغرب. فاعادت أنقرة التزامها امام حلف شمال الأطلسي وتعهدت بإصلاحات سياسية حاسمة و واسعة النطاق بالتخلص من العديد من الموروثات الاستبدادية في الماضي، مثل وضع الجيش تحت السيطرة المدنية وإصلاح النظام القضائي. و قد ساعد الانفتاح السياسي والثقافي والاقتصادي الجديد اردوغان على إعادة انتخابه بنحو 47 في المئة من الأصوات الشعبية في صيف عام 2007، وهي المرة الأولى التى يحصل فيها حزب تركى على أكثر من 45 في المئة من الاصوات منذ عام 1983. وكان هذا امر غير مسبوق في السياسة التركية. و في عام 2011، عزز رئيس الوزراء سحره السياسي بفوزه بنحو49.95 في المئة من الأصوات الشعبية. وبحلول عام 2012 اصبحت تركيا الاقتصاد السابع عشر في العالم، واصبحت طرفا فاعلا مؤثرا في منطقة الشرق الأوسط، وكان رئيس الوزراء التركي محاورا موثوق به لدى رئيس الولاياتالمتحدة. لقد بدأ حزب العدالة والتنمية فى تغيير سياسته نحو الاستبداد و السيطرة حينما نجح فى عام 2007 فى احباط مخطط انقلابى لما اطلق عليه اسم الدولة العميقة بما فيها من عناصر من الضباط العسكريين، وعناصر الاستخبارات، و عناصر من عالم الجريمة و الذين سعوا لقلب نظام الحكم ، وتم استخدام هذا المخطط لإسكات منتقدي الحكومة و الحزب . ومنذ ذلك الحين، أصبحت تركيا بلد يتم فيه سجن الصحفيين بصورة روتينية على أسس مشكوك فيها، وقد استخدمت أجهزة الدولة ضد من يختلفون مع الحكومة، واصبحت حرية التعبير بجميع أشكاله تحت الضغط. المتحدثون والمدافعون عن حزب العدالة والتنمية يلجأون لمجموعة متنوعة من التفسيرات لهذه الانتقادات ، فطارة يقولون " القانون" و طارة "سياق مفقود،" ومرة يقولون " محض تلفيق و افتراء".. كل هذه الأعذار تكشف عن وجهة نظر حزب العدالة والتنمية فى تبسيط الديمقراطية و الكثير من هذه المبررات تساق لخدمة مصالح ذاتية كما فعل الحكام العرب المخلوعين الذين استخدموا مثل هذه المبررات لإضفاء الشرعية على اعمالهم . احد مستشاري رئيس الوزراء قال بنبرة حزينة، "كيف يمكن لحكومة لديها ما يقرب من 50 في المئة من الاصوات ان تكون سلطوية؟" ، ولقد اصبحت حكومة اردوغان تستخدم هوامشها المتزايدة بعد الفوز في الانتخابات لتبرير كل أنواع الإجراءات التي قد تلقى رفض من المعارضة التركية. و قد تجلى هذا النمط بوضوح في النقاش حول الدستور التركي الجديد، الذي يرى أردوغان ضرورة ان يصبح فيه نظام الحكم رئاسى ، و عندما عبرت أحزاب المعارضة عن معارضتهم لمثل هذه الخطة ، هدد اردوغان بتجاهل اللجنة الدستورية تماما ...و لكن مع طرح الفكرة مرة أخرى في أوائل ابريل عام 2013، اضطر اردوغان للتخفيف من حدة موقفه بعد أن أصبح واضحا أن هناك معارضة كبيرة لرؤيته الرئاسية حتى داخل حزب العدالة والتنمية. وتختتم الفورن بوليسى تقريرها حول الديمقراطية التركية ، باهمية و ضرورة اعادة النخبة في السياسة الخارجية لواشنطن التفكير فى مسالة أن تركيا "النموذج" أو "الشريك" المناسب لتسير على غراره في مصر وتونس وليبيا وأماكن أخرى. . وتشير المجلة الى انه كيف يمكن ان يظل هذا التفكير قائما في خضم استمرار سقوط وابل من الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين في ميدان تكسيم ، وفيما يحذر اردوغان حزب الشعب الجمهوري - حزب المعارضة الرئيسي في تركيا - "انه اذا جمع 100،000 شخص، فان اردوغان سيجمع مليون امامهم .. لقد حان الوقت ليدرك البيت الأبيض خطاب اردوغان حول الديمقراطية ، و انه ليس النموذج الصالح لتقديمه للعالم العربي ، و على إدارة أوباما اعادة التفكير، وبدلا من حثها فقط الحكومات العربية بأن تولي اهتماما لمطالب مواطنيها، على واشنطن ان تحث أصدقائها ايضا في أنقرة أن يفعلوا الشيء نفسه كذلك. نعم تم انتخاب حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مع حصة متزايدة من الأصوات الشعبية على مدى العقد الماضي، ولكن تصرفات الحكومة يجعل الأمر يبدو كما لو ان الديمقراطية التركية لا تمتد أبعد من صناديق الاقتراع.