من يشاهد ما يجري في القاهرة بين بضعة الاف من البشر يتصور اننا على ابواب حرب اهلية إذا لم نكن قد بدأناها بالفعل.. بضعة آلاف يحتكرون الشارع والفضائيات والمناصب الكبرى في الدولة وهناك عشرات الملايين مازالوا في حقولهم ومصانعهم ومدارسهم يعملون.. وللاسف الشديد ان كل فريق يرى الصورة من زاوية واحدة ولم يعد هناك أحد يملك القدرة على ان يرى الأشياء خارج حدود ذاته.. الذين وصلوا إلى السلطة اكتفوا بالغنائم.. والذين خرجوا من السباق يبحثون عن فرص جديدة.. والشباب الذي مات لا يجد حتى من يترحم عليه.. وتوقفت مسيرة الوطن تماما امام حالة من العجز لم تشهدها مصر في تاريخها الحديث.. السلطة تدعي انها لم تأخذ فرصتها في العمل ويكون السؤال ولماذا لا تعملون.. والقوى الأخرى تريد التغيير دون ان تقدم البدائل، لأن البديل ليس أفضل كثيرا من الذين يجلسون على مقاعد السلطة.. والشعب المغلوب على امره ينظر من بعيد في ساعة انتظار قاسية هل ينتظر المنقذ.. ام ينتظر العدل.. ام ينتظر الرحمة.. وللاسف انه حتى الآن لم يجد من يرحمه سواء في الراحلين أو القادمين. كل ما يجري الآن على الساحة السياسية ابعد ما يكون عن مصالح المواطنين وازماتهم.. منذ قامت الثورة ورحل النظام السابق والشارع المصري تائه ما بين الاستفتاءات والإنتخابات والمظاهرات والمعارك.. لم يهدأ شئ في المحروسة طوال عامين كاملين. وإذا نظرت إلى النتائج فسوف تكتشف ان الجميع خاسر حتى هؤلاء الذين وصلوا إلى السلطة وتصوروا انهم حققوا انجازا تاريخيا كانوا اول الخاسرين. كل التناقضات تجتمع في مصر الآن.. الفريق الأول وهم جماعة الإخوان المسلمون شغلتهم السلطة عن حل مشاكل المواطنين ومواجهة ازمات المجتمع وبدلا من ان يحشدوا كل إمكانياتهم وقواهم للخروج من هذه الأزمات فهم يتصورون ان التكويش على السلطة سوف يمنحهم فرصا اكبر لمواجهة هذه الأزمات رغم ان الوقت قد لا يكون في صالحهم ولا صالح غيرهم من التيارات السياسية.. لقد تفرغ الإخوان للانتخابات والاستفتاءات وهم بكل تأكيد حققوا إنجازات فيها ولكن المؤكد ايضا ان هذه النجاحات ادت إلى إهمال قضايا اهم وهي المواطن المصري.. ان الشعب المصري الآن لا تعنيه من قريب أو بعيد صراعات النخبة أو انتخابات البرلمان أو بقاء أو رحيل الرئيس مرسي ولكن الذي يعنيه ان يجد رغيفا وسكنا وعملا وكرامة.. ان هذا الشعب على استعداد الآن ان يقدم الولاء لمن يأخذ بيده ويخرج به من هذا النفق المظلم ولكن الإخوان شغلوا انفسهم في المعارك الجانبية وتركوا قضايا الوطن للصراعات والمعارك. الفريق الثاني وهم النخبة التي خرجت من لعبة الصراع دون ان تجني شيئا. هذه النخبة أخطأت لأنها لم تضع الشعب يوما في حساباتها من البداية وإذا كانت جماعة الإخوان قد فرطت في مكاسب تاريخية حققتها في الشارع في ظل النظام السابق فإن النخبة لم تكن يوما قريبة من هذا الشارع بل انها اختارت دائما ان تحتمي بالنظام أي نظام لتحقيق وجودها ومكاسبها ودورها في المجتمع وحين جاء وقت الحساب اكتشفت انها خارج اللعبة وان الجماهير كانت أكثر وعيا لحقيقة الأدوار وشواهد التاريخ. إن معركة النخبة لم تكن يوما لحساب الشعب بعد الثورة ولكنها كانت تسعي فقط لإبعاد الإخوان وتحقيق بعض المصالح الخاصة ولم تنجح في الحالتين فلا هي نجحت في ملء الفراغ الذي تركه النظام السابق أو حتى المشاركة فيه ولا هي استطاعت ان تواجه الزحف الإخواني الذي شيده الإخوان في عشرات السنين.. وكما وقف الإخوان عاجزين عن حل مشاكل المواطنين وقفت النخبة في نفس المكان عاجزة عن التواصل معهم فكانت النتيجة هي الفشل والخسارة من الجانبين النخبة والإخوان معا.. في ظل هذا التناقض والفشل بين النخبة والإخوان ظهرت نتائج كل هذا في السياق العام لإدارة شئون الدولة. وقف الإخوان حائرين امام الأزمات وعيونهم على المزيد من السلطة.. ووقفت النخبة حائرة امام الإخوان وسقطت معها في مستنقع الفشل الجماهيري، القوى الأولى فشلت في حل المشاكل والقوى الثانية فشلت في إيجاد صيغة للتواصل مع الشارع.. وامام مجموعة من الأزمات تكشفت قدرات الجميع واتضح لنا اننا امام مجتمع عاجز في كفاءاته وقدراته عن مواجهة واقعه الجديد.. انقسم الشارع تماما بين قوى متصارعة وتحول الانقسام إلى ازمة ومشكلة امنية حادة اصبحت تهدد كيانه ووحدته وثوابته التاريخية العتيقة وان الفراغ الذي تركه النظام السابق كان اكبر من قدرات القوى السياسية بإختلاف توجهاتها. امام الانقسامات وغياب الأمن انهار الموقف الاقتصادي وتعطلت المشروعات واغلقت وحدات الإنتاج ابوابها وتوقفت الاستثمارات الخارجية والداخلية وتحولنا إلى مجتمع عاطل.. وهنا زادت نسبة العجز في الميزانية وتآكل الاحتياطي النقدي وزادت طوابير البطالة وارتفع حجم الديون وزادت اسعار السلع ووجدت الدولة نفسها امام كارثة اقتصادية عاصفة. امام فشل الجميع في مواجهة الواقع بدأت رحلة انقسامات أخرى بين التيارات السياسية.. اختلف السلفيون مع الإخوان وبدأت رحلة إلقاء التهم وتحمل مسئولية الفشل وكل طرف يحاول ان ينفي مسئوليته عنها.. واقترب السلفيون من الليبراليين إما عن قناعة أو مناورة وسوف تكشف الأيام ما وراء ذلك كله.. وانتقلت الخلافات السرية إلى صراع علني بين الإخوان والسلفيين رغم ان الزواج بينهما لم يطل كثيرا ثم كانت الخلافات غير المعلنة بين جبهة الإنقاذ في مواقفها وحساباتها ومصالح المنتسبين إليها. في آخر الصورة يقف فريق أخر ينظر من بعيد وهو يعيش لحظة انتصار لم يتوقعها في يوم من الأيام وهم رموز النظام السابق.. إنهم الآن في احسن حالاتهم امام حالة الفشل والانقسام والمعارك والفوضى بين القوى السياسية التي اطاحت بالنظام السابق ونصبت نفسها على قمة السلطة.. لقد خرج رموز النظام السابق من السجون وتم الإفراج عنهم جميعا بعد ان قررت محكمة النقض إعادة محاكمتهم من جديد ولم يبق وراء القضبان إلا الرئيس السابق ونجليه ووزير داخليته في انتظار احكام مشابهة. بدأ الإخوان المسلمون حملة مفاوضات مالية مع رموز النظام السابق بعضها رسمي من خلال الحكومة وبعضها سري يقوم به عدد من رجال الأعمال من جماعة الإخوان وان كان هذا يبدو أمرا غريبا وشاذا ان يقود رجال الأعمال الإخوان عملية التفاوض في اموال الشعب في سرية تامة ودون إعلان عن شروطها واماكنها وشخوصها وكأننا ندير عزبة وليست اموال شعب منهوبة. بدأ الاستعداد للانتخابات البرلمانية، ففي الوقت الذي تدور فيه المعارك والصراعات بين الإخوان وجبهة الإنقاذ على الفضائيات وفي ميدان التحرير فإن معركة الإخوان الحقيقية تدور في القرى والنجوع والمحافظات ولن يكون غريبا ان تشهد اتفاقات ومفاوضات مع رموز الحزب الوطني المنحل لأنها القوة الوحيدة الآن القادرة على منافسة الإخوان في الانتخابات القادمة وربما شهدت صفقات جديدة وتنازلات بين ما كان يسمى في الماضي المحظورة والوطني المنحل.. يبدو ان الصراع بين الإخوان وجبهة الإنقاذ سوف يكون على بقايا الحزب الوطني ومن منهما يستطيع ان يفوز بدعم ما بقي من النظام السابق.. ان الإخوان يبحثون عن اموال للخروج من المحنة الاقتصادية التي تعيشها مصر ولم يجدوا حتى الآن أحدا يمد لهم يد المساعدة داخليا وخارجيا وقد يجدون المال لدى رموز النظام السابق وهنا يمكن ان تنجح المفاوضات مع الهاربين بأموال الشعب.. ان جبهة الإنقاذ لا تملك أوراقا كثيرة يمكن ان تشجع الإخوان على التفاوض أو التعاون معهم لأنهم لا يملكون مالا.. وليست لديهم قوى شعبية مؤثرة وفي مجال الكفاءات والقدرات فإن الجميع يتساوى، وإذا كانت هناك حسابات دقيقة لمراكز القوى بكل قدراتها فإن بقايا الحزب الوطني أكثر تأثيرا من جبهة الإنقاذ خاصة بعد خروج رموزها وما تملكه من اموال ورصيد وربما تأثير في الشارع خاصة في ظل حالة إحباط يعانيها المصريون امام متاعب الحياة وامام فشل القوى السياسية في إدارة شئون مصر بعد الثورة. ومما يزيد الأمور والأحوال ارتباكا إصرار الإخوان على عدم تغيير الحكومة ثم قرار المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون الانتخابات وإصرار الرئاسة على إجراء هذه الانتخابات طبقا لما جاء في الدستور الجديد.. وقبل هذا كله سلسلة من القرارات السيادية التي افتقدت الحسم والدراسة معا.. وقد ظهرت مستجدات اخرى على الساحة علينا ان ننتظر نتائجها وفي مقدمتها الخلاف الذي تصاعد كثيرا بين الإخوان والسلفيين ووصل إلى درجة الاتهامات والمطالبة بالرحيل مع التشكيك في الذمم والمواقف كل هذه الأشياء سوف تحكم صورة المستقبل القريب.. ان غياب المصالحة الوطنية وفشل مشروعاتها حتى الآن ورفض اطراف اللعبة السياسية الجلوس معا والخروج بالوطن من هذا النفق المظلم سوف يؤدي إلى تراكم المشاكل والأزمات ولا احد يعرف ما هي نهاية المطاف.. هل يبقى الإخوان على إصرارهم في جمع كل خيوط السلطة وإبعاد جميع القوى بما في ذلك حلفاء الأمس من السلفيين.. ام ان الصراع سوف يتجاهل كل ما حدث بعد الثورة لتعود المواجهة مرة أخرى بين الوطني والمحظورة مع خلاف بسيط ان المحظورة تحكم وان الوطني في صفوف المعارضة.. وهنا يكون السؤال ولماذا قامت الثورة إذا كانت ريما قد عادت لعادتها القديمة ما بين الوطني والمحظورة. يبقى هناك طرف آخر هو الحاضر الغائب في هذا المشهد وهو المؤسسة العسكرية التي تنفي حتى الآن عودتها إلى الساحة السياسية مرة أخرى إلا إذا اقتضت الأمور ذلك خاصة ما يتعلق بأمن مصر وسلامتها وهنا سوف يفرض الواقع حسابات جديدة على كل القوى السياسية. .. ويبقى الشعر ما زال يركض بين أعماقي جواد جامح.. سجنوه يوما في دروب المستحيل.. ما بين أحلام الليالي كان يجري كل يوم ألف ميل وتكسرت أقدامه الخضراء وانشطرت خيوط الصبح في عينيه واختنق الصهيل من يومها وقوافل الأحزان ترتع في ربوعي والدماء الخضر في صمت تسيل من يومها.. والضوء يرحل عن عيوني والنخيل الشامخ المقهور في فزع يئن.. ولا يميل.. ما زالت الأشباح تسكر من دماء النيل فلتخبريني.. كيف يأتي الصبح والزمن الجميل.. فأنا وأنت سحابتان تحلقان علي ثري وطن بخيل.. من أين يأتي الحلم والأشباح ترتع حولنا وتغوص في دمنا سهام البطش.. والقهر الطويل من أين يأتي الصبح والليل الكئيب علي نزيف عيوننا يهوي التسكع.. والرحيل من أين يأتي الفجر والجلاد في غرف الصغار يعلم الأطفال من سيكون منهم قاتل ومن القتيل.. لا تسأليني الآن عن زمن جميل أنا لا أحب الحزن لكن كل أحزاني جراح أرهقت قلبي العليل.. ما بين حلم خانني.. ضاعت أغاني الحب.. وانطفأت شموس العمر.. وانتحر الأصيل.. لكنه قدري بأن أحيا علي الأطلال أرسم في سواد الليل قنديلا.. وفجرا شاحبا يتوكآن علي بقايا العمر والجسد الهزيل إني أحبك كلما تاهت خيوط الضوء عن عيني أري فيك الدليل إني أحبك.. لا تكوني ليلة عذراء نامت في ضلوعي.. ثم شردها الرحيل.. أني أحبك... لا تكوني مثل كل الناس عهدا زائفا أو نجمة ضلت وتبحث عن سبيل داويت أحزان القلوب غرست في وجه الصحاري ألف بستان ظليل والآن جئتك خائفا نفس الوجوه تعود مثل السوس تنخر في عظام النيل.. نفس الوجوه.. تطل من خلف النوافذ تنعق الغربان.. يرتفع العويل.. نفس الوجوه علي الموائد تأكل الجسد النحيل.. نفس الوجوه تطل فوق الشاشة السوداء تنشر سمها.. ودماؤنا في نشوة الأفراح من فمها تسيل.. نفس الوجوه.. الآن تقتحم العيون.. كأنها الكابوس في حلم ثقيل نفس الوجوه.. تعود كالجرذان تجري خلفنا.. وأمامنا الجلاد.. والليل الطويل.. لا تسأليني الآن عن حلم جميل أنا لا ألوم الصبح إن ولي وودع أرضنا فالصبح لا يرضي هوان العيش في وطن ذليل أنا لا ألوم النار إن هدأت وصارت نخوة عرجاء في جسد عليل.. أنا لا ألوم النهر إن جفت شواطئه وأجدب زرعه.. وتكسرت كالضوء في عينيه أعناق النخيل.. مادامت الأشباح تسكر من دماء النيل.. لا تسأليني الآن.. عن زمن جميل من "قصيدة جاء السحاب بلا مطر سنة 1996" نقلا عن جريدة الأهرام