صورة قلمية معبرة ختم بها المنسق المقيم للأمم المتحدة تصدير تقرير التنمية البشرية لإمارة أبوظبي وهو يصف منظر طفل إماراتي لفت انتباهه خلال تناوله الغداء في أحد فنادق المدينة، شاهده يلعب بقارب خشبي قديم في بركة صغيرة، مر بجانبه وسأله: ماذا تفعل؟ فرد الطفل المواطن الذي كان يتقن الإنجليزية بأنه يتولى قيادة سفينته. فقال: لكن قاربك قديم جداً، لم لا تشتر قارباً جديداً، فأجابه بلهجة حازمة: «ولماذا أفعل ذلك، فسفينتي جميلة!». ويكمل «باولو ليمبو» سرد تفاصيل الصورة: «عوضاً عن أحدث لعبة إلكترونية، اختار ذلك الطفل، والأرجح أنه ينتمي إلى أسرة ميسورة، لعبة خشبية قديمة... وبعد دخولي السيارة نظرت إلى الخلف وشاهدت الطفل مرة أخيرة فرأيته يخرج «البوم» ببطء من البركة ويحمله عالياً». طفل إماراتي يتقن لغة العصر في وطن غني يتطلع إلى الغد ويسعى نحوه بثبات وطموح. لفت نظر الزائر حرص الصغير الذي يمثل المستقبل على التمسك بالهوية، بل حبَّه لها ودفاعه عنها، والتي مثّلها هنا بلعبة القارب الخشبي (البوم). متى وأين تم ذلك؟ في عالم العولمة وفي مجتمع يواجه خلل التركيبة السكانية، لقطة تحمل دلالات ورمزية المعنى. تقرير التنمية البشرية لإمارة أبوظبي (2011/2012) الذي أصدرته دائرة التنمية الاقتصادية بدعم من برنامج الأممالمتحدة الإنمائي بالدولة، ميزته أنه الأول من نوعه الذي تجريه الإمارة، وأنه يسعى لنشر ثقافة التنمية البشرية، ساهمت في تقديمه والإشراف عليه جهة دولية محايدة، وشارك في إعداده عدد من الأكاديميين والكفاءات المواطنة. هذا التقرير يتحدث وفق منهج بحثي ورؤية علمية عن مستوى المعيشة وركائز التنمية من خلال التعليم والصحة وسوق العمل والملامح الديمغرافية والاقتصاد، ويستعرض المنجزات ويطرح الإشكاليات في سياسات الحكومة وفي مستوى الأداء، كما يوصي ويحاول استشراف المستقبل. وأعتقد أنه من المهم أن يطلع الجميع على هذا التقرير، القطاع الحكومي والقطاع الخاص، المواطن العادي والمقيم، فهو يتحدث عن واقع وآفاق أفضل نسعى نحوها، وشراكات وقضايا تهمنا جميعاً. فالحكومة، كما تحكي بعض فصول التقرير، ليست المسؤولة وحدها عن إحداث التغيير، الأسرة مسؤولة، وكذلك الشركات الخاصة، إنها قصة الوعي والتربية والتعليم والصحة والثقافة عموماً. فمفهوم التنمية البشرية كما عرفه برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، تحور في عدة مراحل، وأصبح يركز اليوم على مبادئ النمو الاجتماعي، والاقتصاد، والإنصاف، والاستدامة، والتمكين، والأمن، هذه جميعها مقومات متكاملة لتكوين بيئة سليمة نعيش فيها جميعاً. «إن مستقبل التنمية البشرية في الإمارة بحاجة إلى تركيز نوعي على العناصر المكونة لها والتي تمس تطوير حياة الإنسان بشكل مباشر مع ضرورة العمل على النهوض ببعض جوانبها»، كما أوصى التقرير، وكما ذكر رئيس دائرة التنمية الاقتصادية في تقديمه للتقرير. ويتحدث التقرير عن تصنيف أبوظبي عالمياً ضمن الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جداً محتلةً المرتبة 35 عالمياً، وأن أداء إمارة أبوظبي في الجانب الاقتصادي تصدر أداءَ كافة دول مجلس التعاون وأداء سنغافورة والنرويج التي تحتل المرتبة الأولى في دليل التنمية البشرية العالمي لعام 2010، لكنه في جانب آخر يشير إلى التذبذب في معدلات النمو السكاني ويرجعه إلى غياب السياسة السكانية الهادفة إلى تنظيم الخلل في التوازن السكاني. إنه الموضوع المزمن، والذي حاولت الحكومة والفعاليات المجتمعية طويلاً بحثه ومناقشته، وشكلت لجان وعقدت مؤتمرات وكُتب الكثير حوله، لكن كلما مر عقد علينا شعرنا بأن الفجوة تكبر. التقرير حذّر من ذلك بشكل مباشر: «إذا لم يبدأ التفكير جدياً من الآن بوضع استراتيجية سكانية تركز على الزيادة الطبيعية للمواطنين دون سواها، فلن يكون لقضية السكان حدود آمنة وستكون الأضرار التي ستلحق بالأمن الوطني وبالموارد الطبيعية والبيئة والقيم الاجتماعية والثقافية بالغة الخطورة وسيصعب حلها». كلنا شركاء في خلل واقع التركيبة السكانية، ف«نسبة غير المواطنين تمثل خطراً وتهديداً على الهوية الوطنية للإمارة»، وقد «بلغت نسبة إجمالي العمالة غير المواطنة 91.2 في المئة من حجم قوة العمل في عام 2010 ». لكن كما يقول التقرير فإن «الندرة السكانية للإمارة أحد معوقات التنمية فيها». لكن العمالة الوافدة غير الماهرة، أو التي تحصّلت على نسبة تعليم ضعيفة وأيضاً التي تمارس أعمالاً منافسة للمواطن، أو الأخرى ذات الأجور الرخيصة، وأيضاً الغلبة الواضحة لعمالة الذكور على الإناث... جميعها عوامل مؤثرة كما في تقرير التنمية البشرية للإمارة. التقرير تناول بعد الصحة وجهد توفير خدمات طبية متكاملة، ورصد تطور التعليم في الإمارة، والمراحل التجريبية التي مر بها واهتمام الحكومة بتطوير هذا القطاع، لكن ذلك يتطلب الوعي والقناعة عند الطلاب الذين هم مخرجات هذه العملية، ودوراً أكبر للمجتمع والأسرة بالتحديد في ذلك، فلماذا العزوف مثلاً عن التعليم الفني في إمارة تهتم بالصناعة والتقنيات والتطور، ولماذا المسار الأدبي يستأثر بنسبة 74 في المئة من طلبة المدارس الثانوية في التعليم العام خلال 2010، واتجاه النسبة الأكبر من الطلبة إلى دراسة التخصصات غير العلمية في الجامعات؟ ولماذا مساهمة الجامعات الخاصة في البحث العلمي محدودة، كما يقول التقرير؟ تصنف الإمارة من البلدان الفتية، كما يقول التقرير عن الحالة العمرية للسكان المواطنين التي تتميز بغلبة الطابع الشبابي، فنسبة الذين تقل أعمارهم عن 34 سنة تزيد عن 80 في المئة، لكن «تحقيق التنمية البشرية يتطلب إشراكاً أكبر للمواطنين في أنشطة القطاع الخاص». قبل أسبوع قرأنا أن المجلس التنفيذي للإمارة قرر إنشاء مركز الاتصال الحكومي في مدينة العين، وقبل ذلك افتتح طيران الاتحاد مركز الاتصال التابع له هناك، فلماذا هذه المدينة تحديداً؟ لتوافر الكفاءات المواطنة هناك، كما أنه واحد من الحلول لمشكلة البطالة بين المواطنين هناك والتي تصل إلى 16.3 في المئة في هذه المدينة وهي الأعلى في مناطق الإمارة الثلاث. لكن أين القطاع الخاص وهو الأكبر والأضخم في حجمه ومشاريعه مقارنة بدول عديدة؟ وأين مساهمته في إيجاد فرص عمل (حقيقية) لأبناء هذا الوطن؟ متى سيقوم بدوره الوطني ويتحمل مسؤوليته الاجتماعية بقناعة؟! نقلا عن صحيفة الاتحاد