في27 يوليو2004 كنت بين الحضور في المؤتمر الوطني العام للحزب الديمقراطي في مدينة بوسطن عندما إعتلي مرشح للحزب في إنتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية الينوي منصة الخطابة ليصمت الجميع وبعد قرابة20 دقيقة ينفجر الحضور في تصفيق هستيري للمحامي والاستاذ الجامعي الذي أخذ عقل وعاطفة الكثيرين بكلمته الحماسية عن التجديد والتغيير في السياسة الأمريكية. لم أنتظر نهاية كلمته وسألت مساعدة بارزة في الكونجرس عن هذا الوافد الجديد فقالت' هو باراك اوباما.. رئيس أمريكا في2012'.. ظلت تلك العبارة حاضرة حتي فاز أوباما في ولاية' ايوا' الاسبوع الماضي فقلت ربما قرر الشاب الأسمر حسم الرهان مبكرا.. وقبل شهرين تقريبا إلتقيت مستشار السناتور باراك اوباما لشئون البيئة وتغير المناخ البروفسور دان أستي وسألته عن فرص السناتور الاسود الشاب في الفوز بالترشيح عن الحزب الديمقراطي فقال' لقد تجاوز اوباما كل التصنيفات التقليدية عن العرق واللون. هو عقلية فذة يمكنه النفاذ إلي عقول البسطاء في المقاهي الشعبية وبعد دقائق قليلة يدخل في حوار مع مفكرين في منتديات الصفوة بنفس درجة الحماس وبطريقة مختلفة تماما. هو جون كينيدي الجديد الذي طال إنتظاره بين صفوف الديمقراطيين. شخص يقود التغيير'! كان البروفسور دان استي محقا فمن يقرأ خطاب إعلان أوباما ترشيحه لخوض انتخابات الحزب الديمقراطي يري قطعة أدبية فريدة ففي يوم10 فبراير2007 وقف اوباما يعلن من مدينة' سبرينجفيلد' بولاية الينوي ترشيحه قائلا:' تحت ظلال العاصمة القديمة حيث دعا ابراهام لينكولن يوما ما المجلس المنقسم للوقوف صفا واحدا حيث الامال والأحلام المشتركة اقف انا ايضا أمامكم لأعلن ترشيحي لرئاسة الولاياتالمتحدة وأنا علي يقين أن إعلاني للترشح يحمل قدر من الجرأة وقد يعكس ثقة زائدة في النفس وأعلم أنني لم اقض وقتا طويلا لتعلم طرق واشنطن إلا أنني علي يقين أنني قضيت وقتا كافيا لإدرك أن طرق واشنطن تلك يجب ان تتغير.. هنا تعلمت أن اختلف دون خلاف وانه من الممكن ان تصل الي حلول وسط طالما انك تعي ان هناك مبادئ لا تقبل الحلول الوسط وانه طالما اننا قادرون علي ان يسمع احدنا الاخر فاننا يمكن ان نخرج افضل ما في الأخرين بدلا من الاسوأ'. في هذا الخطاب وصف اوباما تجربته ومعركته مع الحياة التي تصالح معها في' شيكاجو' عندما عمل لثلاث سنوات منسقا إجتماعيا في المناطق الفقيرة من خلال شبكة رعاية إجتماعية تابعة لاحدي الكنائس وقال' رأيت ان المشكلات التي تواجه البشر لم تكن ببساطة محلية الطابع وان قرار اغلاق مصنع الصلب هو قرار يتخذه عن بعد من قبل مدير ما وان عدم توافر الكتب الدراسية واجهزة الكمبيوتر في المدارس يمكن ان يكون نتيجة لاولويات منحرفة من قبل ساسة علي بعد الالاف الاميال من تلك المدارس وانه عندما ينحرف الاطفال ويتجهون الي العنف فالسبب حينئذ هو ان هناك فراغا بداخل قلبه لم تستطع ايه حكومة ان تملأه'. تعرف الامريكيون علي' أوباما' من خلال كتابه الاول' أحلامي من أبي' الذي نشره عقب ضجة رئاسته لتحرير' دورية هارفارد للقانون' صاحبة106 أعوام ليكشف عن عالم من التناقضات الجلية.. الأب حسين أوباما التقي الأم في جامعة هاواي قبل46 عاما وتزوجا وبعد عامين جاء الطفل أوباما لكن الاب أثر الدراسة في هارفارد عن البقاء مع الاسرة الصغيرة فقرر الرحيل إلي بوسطن ثم إلي بلده كينيا بعد نهاية دراسته.. استمرت الأم والابن في هاواي خمس سنوات ثم رحلا معا إلي جاكارتا لسنوات خمس أخري تزوجت أمه خلالها من رجل أندونيسي قبل أن يعودا إلي هاواي ليعيش مع جده وجدته وهما من البيض حتي نهاية التعليم الثانوي. وتخرج اوباما من جامعة كولومبيا وقضي ثلاث سنوات في شيكاجو في وظيفة المنسق الاجتماعي لكنه لم ير والده طوال تلك الفترة سوي مرة واحدة عندما كان في العاشرة ولم يقض ساعتها معه سوي شهر. وعندما عاد مرة جديدة إلي كينيا شابا يافعا في عامه السادس والعشرين كان الوالد قد رحل عن الحياة ولم يراه ثانية! ويقول الابن أنه عاش حياة متصلة بذل خلالها جهدا مضاعفا للعيش مع التناقضات والقبول بخصومات الزمن والواقع ومصارعته ايضا ولم يجد أمامه سوي القيام بعملية مصالحة بين اشياء غير متوافقة مثل حياته مع جديه صاحبي البشرة البيضاء ولون بشرته حيث وجد في الروح التقدمية الراقية لجديه تعويضا عن تناقضات أخري في مجتمع السود والبيض. في سبرنجفيلد بشر أوباما الامريكيين بالتغيير القادم معه وقال إن عبقرية المؤسسين كانت في تصميم نظام للحكومة قابل للتغير وهناك من ناس مغرمون بهذا البلد قادرون علي التغيير. ولم ينس أن يستدعي إبراهام لينكولن الرئيس الذي أنقذ البلاد من التمزق في الحرب الاهلية وقال: كانت لدي لينكولن شكوك وكانت لديه إنكسارات ولكنه بإرادته وبكلماته إستطاع أن يحرك امة بأكملها وإستطاع أن يحرر الشعب من خلال الملايين التي احتشدت وراءه ايمانا بقضيته وبعدها لم نعد منقسمين بين شمال وجنوب او بين عبيد وأحرار وسار كل رجل وكل امرأة من مختلف الاعراق ومن كل مناحي الحياة من اجل الحرية..واليوم لدينا الفرصة لأن نواجه تحديات لقرن الجديد كشعب واحد.. كأمريكيين. ما حققه' اوباما' في السياسة الأمريكية في موقعة' ايوا' بمثابة زلزال- علي حد وصف ديفيد بروكس كاتب العمود البارز في نيويورك تايمز- سواء أخفق أو نجح في الترشح عن الحزب فقد فرض واقعا جديدا ودماء متغيرة علي الليبرالية الأمريكية وغير الوان النخبة الحاكمة إلي الأبد..